البديل
أحمد بان
الإخوان وأزمة القيادة
ربما من القضايا التي لم تحظ بدراسة جادة فى مسيرة جماعة الإخوان، على كثرة ما كتب عنها هي أزمة القيادة تاريخيا ودورها وتأثيرها على سلوك الجماعة منذ حسن البنا وإلى اليوم.

بداية لازال أثر حسن البنا عميقا في عقل وقرار الجماعة، رغم ادعاء البعض أن الجماعة تحررت من ميراثه، فقد صاغ الجماعة فكرا وتنظيما بالشكل الذي جعلها مرتبطة به شخصيا، ما جعله المسيطر الأوحد عليها الممسك الوحيد لأعنتها والموجه لنشاطها، وقد استغل في ذلك عاملين كما يذهب المستشار طارق البشري، أولهما الغموض المحيط بأهدافها وبطبيعتها وبمناهجها العملية كدعوة سياسية، وثانيهما بناء تنظيم الجماعة بطريقة تجعله صاحب الأمر وحده، وتجعل سائر أجهزة التنظيم ومستوياته ومكاتبه ولجانه مجرد كيانات استشارية يملك عليها الأمر ويجب عليها السمع والطاعة، وكان ما يحيط فكر الجماعة وأهدافها من إبهام مما يفيد قيادتها في أن تجذب إليها كتلا من الجماهير والقوى السياسية، متباينة المواقف والمشارب في السياسة والأهداف العملية، وهو مما يفيدها أيضا في القدرة على الحركة الطليقة غير المقيدة بأهداف محددة ولا مناهج مسبقة، ما مكن المرشد العام أن يحتفظ بسلطات الزعامة الشخصية في الجماعة وعلى كوادرها وجماهيرها، باعتباره صاحب الدعوة فلا يملك أحد غيره في أي مواقف عملية أن يوضح ما خفى منها أو يوضح وجهة نظر الجماعة، ولا يعترف الجمع الرابض في الجماعة لأحد غير المرشد بذلك، ولو كانت الأجهزة القيادية فالمرشد هو المبايع على السمع والطاعة.

وبهذا كان الغموض منهجا يرتب نتائج عملية محددة، نوعا من مصادرة المعرفة لحساب فرد واحد هو المرشد، فكان غموضا واعيا ومقصودا لفائدة معينة وقبلت الجماعة وأعضائها هذا الوضع، بما فيه من تجسيد دنيوي لفكرة الغيب ومن قبول لهيمنة غير المنظور على ملكات المرشد، والخضوع لتحكمه في أقدارهم وتوجيه مصائرهم، بدت الجماعة في حياة البنا لذلك قوية متماسكة موحدة، وكان ما يحدث من اختلافات بين أعضائها فى المستويات العليا لها تقف دون المرشد العام وتختفي تحت ظلال بردته، لذا كان من الطبيعى مع اغتيال حسن البنا أن تستشعر الجماعة بعده اليتم، وأن تظهر الخلافات بين أعضائها وقادتها حول الأهداف السياسية ومناهج العمل، وما دام لم تتبلور داخل الجماعة تيارات سياسية محددة في حياته، فلم يكن من المقدور أن تتبلور سريعا بعد وفاته، وقد امتزجت الخلافات السياسية بالأطماع الفردية والتجمعات الشخصية ورغبات الوصول للزعامة وهو ما ظلت دعاية الجماعة تنكره تحت ادعاء التجرد والربانية التي ظلت بلا مصاديق في الواقع.

لم تفقد الجماعة بموت البنا منظمها فقط، بل فقدت مفكرها وراسم سياساتها ومحدد أهدافها، لذا بعد وفاته ظهرت ثلاثة اتجاهات لتقديم البديل على حسب ما يرى البشري، الأول محافظ على رأسه عبد الرحمن البنا شقيق المرشد وأكثر الناس شبها به شكلا لا موضوعا، والثانى اعتبره متطرفا على رأسه صالح عشماوي، وكان الأقرب للنظام الخاص، والثالث معتدل على رأسه الدكتور كمال الدين حسين وأحمد حسن الباقوري، وكانت مجموعة الوسط المعتدلة هي المجموعة ذات الثقل الأكبر فعملت على اختيار مرشد عام يتفق هواه مع سياستها كما يذهب الأستاذ إسحاق الحسيني، الذي يروي أنه بعد اغتيال الشيخ البنا دخلت الجماعة في أزمتها الكبرى، وكان يديرها عبد الرحمن البنا وصالح عشماوي وأحمد حسن الباقوري، وأنه في سنة 1950 اختارت الجماعة صالح عشماوي وكان رئيسا لتحرير صحيفة الدعوة للإشراف على الجماعة باعتباره نائبا للمرشد العام، وأنه كان مقدرا للباقوري أن يتولى منصب الإرشاد فرغب في التخلي عنه، وأنه في هذه الفترة ظهر التنافس الشديد على الزعامة بين رؤوس الجماعة، خاصة بين صالح عشماوي وعبد الرحمن البنا وعبد الحكيم عابدين ومحمد فرغلي، كما ظهرت الصراعات بين الجماعة والجهاز السري، زاد من حدة الصراعات الداخلية أن نظام الجماعة الداخلي يركز السلطات جميعها في يد المرشد العام وليس لمكتب الإرشاد ولا للهيئة التأسيسية إلا وجود استشاري بجانبه، لذا كانت الجماعة تلتقي في حياة البنا عنده باعتباره الرجل القوي، أما بعد وفاته لم يعد ثمة من يستطيع الهيمنة مثله على الجماعة كلها، فلم يجدوا بدا من أن يلتقوا عند الرجل الضعيف تأجيلا للأزمة وأملا في السيطرة على الجماعة من خلاله، تماما كما كان يحدث بين أمراء المماليك عندما يلتقون على تعيين السلاطين الضعفاء أو الصبية من أبناء السلاطين السابقين في التاريخ الوسيط.

وبهذا تفضي الزعامة الفردية القوية إلى نقيضها ضعفا وبهذا التقت الجماعة على اختيار الأستاذ حسن الهضيبي مرشدا عاما لها، والذي لم يكن سوى شخصية تقليدية محافظة غير متمرسة في العمل السياسي، بعيدة عن أمواجه، وقد حظى اختياره برضا القصر الذي اغتال البنا نظرا لزواج الهضيبي من شقيقة ناظر الخاصة الملكية، كما كان لديه علاقات عائلية وشخصية وثيقة ببعض العائلات الثرية المقربة من الملك، عمل الهضيبي على إبعاد الكثير من الأعضاء القدامى ذوي الاتجاهات المعارضة لها في داخل الجماعة، واختار أعوانه من أصحاب المناصب القانونية والقضائية في الجماعة، وأجريت تعديلات في قيادة الجهاز السرى أبعد فيها صالح عشماوي والمرتبطون به، وتحت السطح أخذت الخلافات تنمو بين الاتجاه الذي يؤيد سياسة الهضيبي وبين من يعتبرون أنفسهم أحق منه بالزعامة، ومن عابوا عليه ضعفه وفقدانه القدرة على ضم الصفوف وخضوعه المكشوف للملك في الوقت الذي هز فيه الفوران الشعبي عرشه، بدت الفجوة واسعة بين البنا والهضيبي في أنماط القيادة وملكات كل واحد منهما بما انطبع على مسيرة الجماعة بعدها وهو ما قد نعرض له في مقالات قادمة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف