البديل
جلال الشايب
الهزل في حياتنا المصرية
«نحن أمة تهزل في الجد وتجد في الهزل» عبارة لا أذكر من قائلها، قد يكون طه حسين وقد يكون كاتبا آخر، لكنها في جميع الأحوال عبارة صادقة بقدر ما هي صادمة، فنحن لا نأخذ أعمالنا وأشغالنا بالجدية المطلوبة أو الكافية، الموظف يتأخر في الحضور إلى مكان عمله، والعامل لا يتقن العمل المكلف به في المصنع، والطبيب لا يؤدي الواجب المفروض عليه في المستشفى، والمدرس يتغيب عن المدرسة، والتلاميذ يزوغون من الفصول بعلم الناظر والمدرسين. وفي المقابل نأخذ الهزل بجدية شديدة، قد نتشاجر ونتخاصم مع بعضنا بعضًا بسبب مباراة في كرة القدم، أو تعليق في الفيس بوك، والكثير من الأفراح في الريف والصعيد تنتهي بمأساة؛ بسبب عادة إطلاق النار في الهواء.
والحكومة أيضًا تهزل في الجد وتجد في الهزل، تعلن عن إنشاء عاصمة إدارية جديدة ستكلف الدولة مليارات الجنيهات، مساحتها أكبر من العاصمة الفرنسية باريس سبع مرات، والعاصمة الأمريكية واشنطن أربع مرات، وتعادل مساحة مطار العاصمة مرة ونصف مساحة مطار هيثرو في لندن، ومساحة حديقة العاصمة أكبر بمعدل ستة مرات من مساحة حديقة «هايد بارك» الشهيرة، ومساحة المدينة الترفيهية أكبر بمعدل تسع مرات من مساحة منتجعات «ورلد سينتوسا» في سنغافورة، ومساحة المنطقة الإدارية الحكومية أكبر بواقع ثلاث مرات من مساحة منطقة السفارات في برلين. كل ذلك، في الوقت الذي تقترض فيه الحكومة من البنك الدولي ودول الخليج، حتى تجاوز الدين الخارجي أكثر من 65 مليار دولار، وتطالب الناس بترشيد النفقات والتبرع لصالح صندوق تحيا مصر، ويقول رئيس الدولة موجهًا حديثه للشعب: إننا «فقرا أوي أوي».
ومن صور الهزل أيضًا أن تستدعى الحكومة خبيرًا أجنبيًّا في كرة القدم في صورة مدرب للمنتخب، يتقاضى أكثر من سبعين ألف دولار في الشهر، وفي المقابل لا تجلب خبراء أجانب في المجالات المهمة والحيوية التي فشلنا في إدارتها لعقود طويلة، مثل الاقتصاد والتعليم والصحة والمرور والسكة الحديد وغيرها، والتي نحتاج فيها للخبرة الأجنبية أكثر من حاجتنا للوصول إلى كأس العالم لكرة القدم.
لكن ظاهرة الهزل ليست جديدة في حياتنا المصرية، فمنذ أكثر من سبعين عامًا، كتب الكاتب الكبير توفيق الحكيم يقول: «إن النظرة الفاحصة إلى حياتنا المصرية اليوم لا يمكن أن تنم إلَّا عن شيء واحد، هو أن الروح المسيطر علينا الآن هو روح التهريج، فنحن قوم نريد أن نضحك ونمزح ونهزل في كل حين، ونحن نريد من كل شيء المظهر، ولا نعبأ بالجوهر، كل مشروع حيوي ينقلب عندنا إلى احتفالات وإعلانات، ولا شيء بعد ذلك، وكل هدف عندنا هو الوصول الشخصي بطريق الطبل والزمر، ولا عمل خلف ذلك».
للدكتور حامد زهران، أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس، تفسير طريف لتلك الظاهرة الراسخة في حياتنا المصرية. فمنذ حوالي عشرة أعوام، حضرت له محاضرة في إحدى دورات المعلم، نسيت موضوعها لكن لم أنس أبدًا مدخلها. بدأ الدكتور حامد زهران، رحمه اللـه، محاضرته قائلًا، إن الأطفال في مصر، قبل انتشار التليفزيون وقبل اختراع ألعاب الكمبيوتر، كانوا يلعبون ألعابًا كثيرة في الشارع مثل؛ الاستغماية، والكلب الحيران، وصيادين السمك، والسبع طوبات، وعسكر وحرامية، وفى اللعبة الأخيرة، يقسم الأطفال أنفسهم إلى فريقين، فريق يقوم بدور العسكر وفريق يقوم بدور الحرامية، ويحدد العسكر المكان الذي سيكون بمثابة سجن للحرامية عند إلقاء القبض عليهم، وقد يكون ذلك حائطًا أو دائرة ترسم على الأرض بالطباشير لتكون هي السجن، ويكون على السجن حارس من العسكر يحرس السجن ويمنع الحرامية من الاقتراب منه. ويبدأ فريق الحرامية بالهرب في كل اتجاه، بينما يقوم العسكر بملاحقة الحرامية والبحث عنهم في مخابئهم ومطاردتهم من مكان لآخر، ويستخدم العسكر قطعًا خشبية تمثل المسدسات، وقد يصدرون أصواتًا تشبه صوت إطلاق النار، فإذا تمكن أحد العساكر من الإمساك بأحد الحرامية، وضعه في السجن، وإذا نجح العسكر في وضع كل الحرامية في السجن، اعتبروا منتصرين، أما إذا فشلوا في ذلك، اعتبروا خاسرين. وكان من شروط اللعبة المهمة أن يتقمص كل فريق الدور الذي يلعبه ويندمج فيه بإخلاص شديد، فيتصور من يقوم بدور العسكري أن قطعة الخشب التي يمسك به هي مسدس حقيقي بالفعل، ويتصور من يقوم بدور الحارس أن دائرة الطباشير المرسومة على الأرض هي سجن حقيقي بالفعل، ويتصور من يقوم بدور الحرامي أنه لص عتيد فعلًا فيحاول بكل قوة الهرب من قبضة العسكر وإلَّا تم اعتقاله.
ويقول الدكتور حامد زهران، إننا لما كبرنا، قررنا ـ نحن المصريين ـ أن نستمر فى اللعب والهزل، ولكن بمسميات جديدة. قررنا مثلًا أن نلعب «دولة مؤسسات» فكانت هناك سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية وسلطة قضائية، وهناك دستور ينص على مبدأ الفصل بين السلطات، فالسلطة التشريعية «البرلمان» تشرع القوانين، والسلطة التنفيذية «الحكومة» تتولى الحكم والإدارة وتسيير أمور الدولة ضمن حدود تلك القوانين، أما السلطة القضائية فتهدف إلى تحقيق العدل تبعًا للقانون. وقررنا أيضًا أن نلعب «ديمقراطية» فكانت هناك أحزاب سياسية، ومبنى فخم اسمه مجلس النواب، وهناك نواب منتخبون، وانتخابات برلمانية تتم كل أربع سنوات تحت إشراف قضائي كامل، وحتى تكتمل الصورة، هناك استجوابات وطلبات إحاطة يقدمها السادة النواب إلى السادة الوزراء، وتجرى مناقشات حامية عنيفة بينهم كما في مجلس العموم البريطاني أو مجلس الشيوخ الأمريكي. وقررنا كذلك أن نلعب «جامعة» فكانت هناك كليات ومعاهد ومدرجات ومعامل ومراسم وقاعات مكتبية، وهناك أساتذة وأساتذة مساعدون ومدرسون ومدرسون مساعدون ومعيدون وطلاب، وفصل دراسي أول وفصل دراسي ثان، وهناك امتحانات ومراقبون وملاحظون، وحفلات تخرّج يرتدي فيها الطالب روبًا أسود على كتفيه وقلنسوة مربعة مسطحة على رأسه ليتسلم شهادة البكالوريوس أو الليسانس من عميد الكلية، وهناك أيضًا دراسات عليا، ومناقشات تنعقد لمنح درجات الماجستير والدكتوراه، تمامًا مثل أفضل جامعات أوروبا وأمريكا.
ما أراد الدكتور حامد زهران أن يقوله، إننا قد نقلنا عن الغرب أنماط الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية التي ابتكرها وطورها الأوروبيون عبر تاريخهم الطويل، لكننا لم نأخذ عنهم سوى الشكل والمظهر فقط، أما المضمون والجوهر فحدث ولا حرج. نعم لدينا دستور، لكن هل يحترم النظام السياسي الحاكم مواد هذا الدستور، أم يطبقها وقتما يشاء ويغفل عن تطبيقها وقتما يشاء؟ ونعم ينص الدستور على مبدأ الفصل بين السلطات، لكن هل هناك بالفعل فصل تام بين تلك السلطات، أم أن السلطة التشريعية قد تنازلت عن حقها التشريعي وعن الكثير من الحقوق والالتزامات التي كان يجب أن تقوم بها لمصلحة السلطة التنفيذية؟ ونعم لدينا مجلس نواب، لكن هل هناك استجوابات ومناقشات حقيقية تسفر مثلًا عن تغيير الحكومة أو إقالة أحد الوزراء، أم أن جلسات البرلمان ـ كما نراها في التليفزيون ـ تكاد تكون خالية من النواب، ومن ينطق برأي مخالف يحال فورًا إلى لجنة القيم ويتم إسقاط عضويته؟ ونعم لدينا جامعات ودراسات عليا، لكن هل رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناقش في تلك الجامعات بالمئات سنويًّا تنطبق عليها بالفعل معايير الرسائل العلمية في العالم المتقدم، أم أنها بعيدة تمامًا عن هذه المعايير، ولذلك فإن جامعاتنا ليس لها وجود في قوائم أفضل خمسمائة جامعة في العالم؟ ونعم لدينا وزارة للتعليم العالي والبحث العلمي، لكن هل لدينا بحث علمي جاد بالفعل، أم أن البحث العلمي عندنا لا يزيد عن كونه مجرد وسيلة لترقي أعضاء هيئة التدريس، وشرطًا للصعود في السلم الوظيفي بالجامعة، أو مهزلة ودعاية سياسية؟ ولنا في جهاز اللواء عبد العاطي عبرة.
الواقع، للأسف الشديد، يقول إننا بالفعل أمة تهزل في الجد وتجد في الهزل، نهزل ونلعب ونضحك على أنفسنا، ونتصور أننا نستطيع أن نضحك على الآخرين، لقد صدق الدكتور حامد زهران عندما قال في ختام محاضرته، إن حياتنا كلها لعب في لعب.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف