جمال سلطان
محاكمة قاض لمساهمته في وقف التعذيب ؟!
نشرت أمس تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" تحمل الخبر "المشئوم" عن إحالة اثنين من كبار رجال القضاء في مصر إلى مجلس التأديب والصلاحية بسبب مشاركتهم في إعداد مشروع قانون لمنع التعذيب في السجون ، الخبر كان صادما لدرجة أن كثيرين من أنصار النظام نفسه رفضوا تصديقه ووصفوه بالتشنيع والأكاذيب وأنه لا أصل لهذا الخبر ولا واقع له ، والحقيقة أني عذرت هؤلاء ، كما عذرت الآلاف من المصريين الذين أصابتهم الدهشة والذهول من تلك الواقعة ، أن يعاقب اثنان من القضاة بسبب مشاركتهما في إعداد مشروع قانون يحقق إنسانية الإنسان في مصر ، ويحمي كرامته ، ويصون عرضه ، ويضعف قدرة السلطة على ممارسة جريمة التعذيب ، بدلا من أن نقوم بتكريم هذين القاضيين على جهدهما النبيل وشرف موقفهما وحسهما الوطني المجرد عن الهوى والغرض وأي انتماءات حزبية أو سياسية .
القاضيان الشريفان هما سيادة المستشار عاصم عبد الجبار ، نائب رئيس محكمة النقض ، والذي من المفترض أن يتبوأ بعد عدة أشهر عضوية المجلس الأعلى للقضاء ، أعلى سلطة قضائية ، والثاني هو سيادة المستشار هشام رؤوف ، الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة ، وكانا قد استجابا لرجاء من المحامي المرموق نجاد البرعي للمساهمة في إعداد ورقة عمل تسهم في صياغة مشروع قانون جديد يمكن تقديمه للجهات المختصة في الدولة ، البرلمان أو الرئاسة ، من أجل العمل على وقف الانتهاكات المروعة لآدمية الإنسان في السجون المصرية ، وهي الانتهاكات التي اعترفت بها المنظمة الحكومية نفسها "المجلس القومي لحقوق الإنسان" ، كما اعترفت ببعضها أجهزة الدولة ووعدت بمعاقبة مرتكبيها ، كما تحولت إلى جرح نازف يصرخ من ألمه مئات الآلاف من الأسر المصرية التي مات أبناؤها في السجون أو في طريقهم إلى الموت .
وجه الاتهام في المسألة أن القاضيين مارسا عملا سياسيا ، وأنهما شاركا مركزا غير "شرعي" في إعداد مشروع القانون ، وهذا اتهام بالغ الغرابة ، خاصة إذا راجعنا موقف مؤسسات العدالة مما جرى من أول 12 فبراير 2011 عقب إسقاط مبارك ونظامه ، وحتى اليوم ، مرورا بصخب عام مرسي والاحتجاجات العنيفة على بعض مواقفه وقراراته من قبل مئات القضاة وبيانات وتصريحات ومقالات وحوارات تليفزيونية وغيرها تشتبك اشتباكا صريحا مع الأزمة السياسية ، وتحالفات لها طابع سياسي صريح مع منظمات غير شرعية ولا تحمل أي صفة قانونية مثل حركة "تمرد" ، كما كان ما جرى في نادي القضاة نفسه ، عندما كان يرأسه المستشار أحمد الزند ما يهولك من تسييس موقف الجماعة القضائية ، وكيف كانت منظمات غير شرعية وغير قانونية ولا صفة لها يتم استضافتها واستضافة رموزها وكوادرها لمخاطبة القضاة وتحريضهم ، كما كان رئيس المجلس الأعلى للقضاء يجلس في مشهد 3 يوليو الشهير ، بجوار الناشط السياسي محمود بدر وهو لا يحمل أي صفة قانونية ويترأس تنظيما غير شرعي يجرمه القانون ولا يحمل أي مستند للشرعية ، وكذلك كان رئيس المحكمة الدستورية حاضرا ، فبعد كل هذا الصخب والتداخل والانخراط في الشأن السياسي والعام نأتي إلى قاضيين كريمين نعاقبهما لأنهما شاركا بورقة قانونية في أعمال منظمة حقوقية شهيرة تحظى باحترام دولي وإن لم تعترف بها السلطات المصرية قانونيا حتى الآن ، ونقول أنهما اشتغلا بالسياسة وانخرطا في نشاط بعيدا عن عمل القضاء ؟! ، هذا كثير جدا على استيعاب العقل .
أيضا ، لم يستوعب الرأي العام ، كيف يكون إسهام قاض شريف في صياغة قانونية لمشروع قانون نوعا من الاشتغال بالسياسة ، ما هي السياسة ؟ ، إن ما تكرم به هذان الشريفان هو أشبه بالمقالات القانونية أو الأبحاث القانونية أو حتى الدراسة ذات الطابع الأكاديمي عن بعض متعلقات التشريع والقانون في الدولة ، ولا أعتقد أن هذا يمكن أن يمثل اشتغالا بالسياسة ، وإذا تم قياسه بما حدث من السادة القضاة وناديهم على مدار السنوات الخمس الماضية فإنه سيكون أكثر غرابة .
أتمنى أن تجد تلك القضية سبيلها إلى الاحتواء من خلال مؤسسة العدالة ، خاصة وأنها صادمة للغاية للرأي العام ، والقضاء في مسيس الحاجة إلى تضامن الجماعة الوطنية معه في تلك اللحظات الحاسمة ، وسيف السلطة التنفيذية يلوح به الآن بغلظة وعجرفة على رقابهم عصفا باستقلال القضاء وتهديدا لمستقبلهم الوظيفي أيضا ، حيث أعلن بعض أعضاء البرلمان أمس أنهم بصدد إعداد مشروع قانون لمنع مد سن المعاش للقضاة أكثر من سن الستين ، وهو نفس القانون الذي أثار ضجة ضخمة واحتجاجات واسعة أيام حكم محمد مرسي .
نحن أمام قضية رأي عام بامتياز ، والخيط الفاصل بين ما هو سياسي وما هو قانوني أحيانا يبدو رفيعا لدرجة تحتمل أكثر من رأي وأكثر من تقدير وأكثر من احتمال ، وأيا كانت التفاصيل ، ينبغي أن يدرك السادة القضاة أن الصورة العامة التي خرجت للناس في هذه القضية ، داخل مصر وخارجها ، أن مصر تعاقب قاضيين شريفين لمساهمتهما في مشروع قانون لوقف التعذيب في السجون ، هذه صورة كئيبة للغاية ، وخطيرة ، وثمنها فادح جدا على سمعة قضائنا ، بل على سمعة مصر كلها ، خاصة وأن تلك القضية لن تنتهي عند العقاب النظامي ـ إن حدث لا سمح الله ـ ولكنها ستمتد إلى أبعد من ذلك ، لأنهما سيتحولان إلى رموز وطنية دالة على موقف ما ضد موقف ما ، وسيكون هناك تضامن شعبي واسع النطاق معهما ، مما يعمق صورة غير مستحبة لمؤسسة العدالة في ذاكرة المصريين .