بعد انتفاض الشعب المصرى فى ثورتين شعبيتين أولاهما فى 25 يناير 2011 وثانيتهما فى 30 يونيو 2013 ، قدم الشعب خلالهما مئات الشهداء وآلاف المصابين سواء فى سعيه للتخلص من نظام مبارك السلطوى أو فى مواجهته للإرهاب فى سيناء وداخل الوادى تصدى خلالها للعديد من الاغتيالات وأعمال التخريب ونسف المنشآت العامة والخاصة وإدخال البلاد فى مواجهات دامية معلنا انه لن يهدأ حتى يتحقق للمجتمع المصرى ما يستحقه من تطور ديمقراطى على أنقاض النظام السلطوى الذى كان قائما قبل ثورة 25 يناير، بعد هذا كله نفاجأ بموافقة مجلس النواب على مشروع قانون يتضمن تعديل إحدى مواده الخاصة باختيار رؤساء الهيئات القضائية، فبعد أن كان رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس الدولة ورئيس النيابة الإدارية ورئيس هيئة قضايا الدولة يتم اختيارهم من الجمعيات العمومية لهذه الهيئات القضائية من أقدم أعضائها الذين يعينهم رئيس الجمهورية بناء على ترشيح الهيئات القضائية، إذ بنا نفاجأ بموافقة مجلس النواب على تعديل قانون السلطة القضائية بأن رئيس الجمهورية من حقه أن يختار واحدا من بين أقدم ثلاثة قضاة يتم التوافق عليهم من بين سبعة وتقدم الأسماء الثلاثة للرئيس لاختيار واحد منهم وهكذا يعود بنا مجلس النواب إلى أوضاع سبق أن تخطاها الشعب المصرى بتضحياته وناضلت السلطة القضائية من أجلها لزيادة استقلالها الذى هو فى الوقت نفسه أكبر ضمانة لتمتع الشعب المصرى بمزيد من العدالة فاختيار رؤساء الهيئات القضائية من ضمانات استقرار المجتمع بتحقق العدالة بين المواطنين، وهكذا يقودنا مجلس النواب خطوات كبيرة إلى الوراء كأنما يستجيب لنداء صادر إليه من خارجه امرا «للخلف در» معرضا المجتمع والسلطة القضائية للانقسام فالذين تبنوا هذا الاقتراح إما جاهل لا يدرى شيئا عن النضال الطويل الذى مارسه القضاة لنيل استقلال السلطة القضائية، ومازالوا يناضلون من أجل التخلص مما بقى من نفوذ للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية، أو هو غافل عما يمكن أن يؤدى إليه هذا التطور السلبى من مشاكل لا يعلم إلا الله ما يمكن أن تؤدى إليه ، خاصة فى ظل الأوضاع الحالية التى تتراكم فيها الأخطاء والنواقص ، فقد شهدنا منذ قليل مجلس النواب يرتكب خطأ مماثلا عندما تجاهل مشروع الحكومة لقانون الجمعيات الأهلية، الذى أعدته وزارة التضامن الاجتماعى وعرضته للحوار المجتمعى فترة طويلة وأقره مجلس الوزراء وأحاله لمجلس النواب لإصداره، فإذا بمجلس النواب يتبنى مشروع قانون آخر للجمعيات الأهلية قدمه أحد النواب ولا نعرف حتى الآن الجهة التى تقف وراءه والذى لا يحقق أيا من مطالب المجتمع المدنى ولا يلبى حاجة المجتمع المصرى إلى قانون يستجيب للاحتياجات المجتمعية وصدر القانون خلال ساعات وأرسله إلى رئاسة الجمهورية التى أعادته للمجلس مرة أخرى ولا نعرف كيف سيتفادى مجلس النواب هذه الورطة، وهناك حالات أخرى مشابهة تتفق كلها فى أنها تلغى مكاسب اجتماعية ناضل الشعب من أجل تحقيقها فتثير المشاكل والانقسام فى المجتمع.
والتعديل الذى أقره مجلس النواب لقانون السلطة القضائية يتعارض تعارضا مباشرا مع نصوص صريحة فى الدستور منها المادة 185 التى تنص على أن كل جهة أو هيئة قضائية تقوم على شئونها ولها موازنة مستقلة ويؤخذ رأيها فى مشروعات القوانين المنظمة لشئونها ، ولم يؤخذ رأى الهيئات القضائية فى هذا التعديل . و المادة 189 التى تنص على كيفية تعيين النائب العام بأن يختاره مجلس القضاء الأعلى من بين نواب رئيس محكمة النقض أو الرؤساء بمحاكم الاستئناف أو النواب العامين المساعدين ويصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية، وكذلك الماده 191 التى تنص على قيام الجمعية العامة للمحكمة الدستورية على شئونها ويؤخذ رأيها فى مشروعات القوانين المتعلقة بشئون المحكمة، وكذلك المادة 193 التى تنص على أن تختار الجمعية العامة للمحكمة الدستورية رئيس المحكمة من بين أقدم ثلاثة نواب لرئيس المحكمة ويصدر قرار بتعيينه من رئيس الجمهورية، كما يخالف التعديل المادة المنظمة لهيئة قضايا الدولة والمادة المنظمة للنيابه الإدارية .
فوجئ أعضاء السلطة القضائية بجميع هيئاتها بهذا التعديل الذى تجاهلها ولم يأخذ مجلس النواب رأيها فيه، والذى ارتكب مجلس النواب مخالفة صريحة للدستور بإصداره كما أوضحنا . كان لنادى قضاة مصر موقف حاد رافض لهذا التعديل ودعا المجلس الاستشارى لرؤساء نوادى القضاء على مستوى الجمهورية لمناقشة هذه التعديلات ، كما أعلن مصدر قضائى أن مجلس القضاء الأعلى يعتبر هذه التعديلات مرفوضة بالإجماع، وقال رئيس نادى القضاة إن إقرار هذا القانون إهانة ، اما قضاة مجلس الدولة فيرون أن إقرار التعديل يدخل البلاد فى نفق مظلم ، وأكدت مصادر قضائية مطلعة بمجلس الدولة أن مشروع القانون الجديد حينما يعطى لرئيس الجمهورية الحق فى اختيار رئيس كل هيئة قضائية لاسيما مجلس الدولة فسيكون بهذا القرار اختار رئيس المحكمة الإدارية العليا وهى التى تفصل فى الدعاوى المقامة ضد الحكومة ومنها رئيس الجمهورية ذاته ، بل وتحكم فى أخطرها وهى المتعلقة بالحقوق والحريات والاتفاقيات الدولية وعقود الخصخصة وبيع أراضى الدولة، مؤكدة أن هذا القانون صدر دون دراسة أو مناقشة متأنية ، وتجمع كل الهيئات القضائية على مخاطبة رئيس الجمهورية لإيجاد مخرج من هذا المأزق. فهل سيتحقق ذلك؟