أحمد أبو الدوح
السيسى فى واشنطن.. إعادة إيقاف المنطقة على قدميها
ضع كوبا من الماء في مجمد الثلاجة وانتظر قليلا. أخرج الكوب من المجمد بعد أن يتحول إلى ثلج، واتركه في درجة حرارة الغرفة لساعة، سيعود مرة أخرى إلى ماء. اعد الكوب مجددا إلى المجمد. لن يستغرق الوقت الكثير حتى يتحول مرة أخرى إلى ثلج. تجربة بسيطة ومعروفة لكنها أيضا تجسيد دقيق لطبيعة العلاقات المصرية السعودية. هذه العلاقة خاصة جدا. أي سوء فهم لأبعادها هو سوء فهم لخيوط المنطقة بأسرها.
العلاقات المصرية السعودية هي المحور الذي تبني عليه أي إدارة أمريكية جديدة تصوراتها بعيدة المدى في المنطقة. إدارة الرئيس دونالد ترامب اختصرت الطريق نحو عمق المنطقة من دون مراوغة. زيارة السيسي إلى واشنطن بعد أيام هي زيارة قرارات وليست زيارة استكشاف تقليدية. هذه الزيارة ستحسم الشكل النهائي لخطة الشرق الأوسط في ذهن الإدارة الأمريكية الجديدة.
عودة شحنات النفط من شركة أرامكو، قبل أن ينهي ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان زيارته إلى واشنطن، لم تفسح مجالا لأي أوهام حول رؤية ترامب للمنطقة.
محور الاستراتيجية الأمريكية الجديدة هي مواجهة إيران على جبهة، وانهاء وجود داعش وتوقيض الإسلام السياسي على الجبهة الأخرى. إيران وداعش هما تهديدان وجوديان للمنظومة العربية في شكلها التقليدي. هذان التهديدان لم يكتسبا زخمهما إلا عبر الثغرات التي خلقتها الأجندات المتضاربة في الجسد العربي الافتراضي، خصوصا في مرحلة ما بعد »الربيع العربي«.
السياسة هي أولى خيارت أي سياسي مسلكي أمام مشكلة معقدة كهذه في منطقة أكثر تعقيدا. لم يكن كلينتون أو بوش الابن أو أوباما ليتصرفوا إلا عبر نهج متوقع يعتمد على ما يعرفونه طوال حياتهم المهنية، من حشد الأصوات واثارة الزخم والتفكير في تحقيق أرباح مؤقتة، والاقدام على مغامرات غالبا ما تكون غير محسوبة العواقب. تزامن هذه العقلية مع انفجار غير مسبوق في المنطقة خلق ما يعرف بـ«الشرق الأوسط الجديد«.
إدارة ترامب لا تعرف السياسة جيدا. لأول مرة تفرغ مراكز صنع القرار في البيت الأبيض من السياسيين المنتمين إلى المؤسسة التقليدية. في الشئون الداخلية ثمة مجموعة من النشطاء الذين يحملون أفكارا يمينية، وفي الشئون الخارجية العسكريون هم من يتولون زمام الأمور.
لا ينظر وزراء ومستشارو ترامب العسكريون بعين سياسية إلى المنطقة. تفكير الإدارة الأمريكية لأول مرة يعتمد على فك وتركيب الجزئيات الصغيرة، وتقديم الأولويات وإعادة ترتيب بيت الحلفاء من الداخل، قبل التقدم بخطوات بطيئة إلى الأمام. إدارة أزمات الشرق الأوسط صارت تشبه كثيرا إدارة معركة عسكرية.
تحقيق الاستراتيجية الجديدة أي نتائج ملموسة لن يكون سوى بغلق الثغرات في الجسد العربي أولا. العسكريون حول ترامب يؤمنون بأن غلق هذه الثغرات لن تتم إلا عبر التخلص من »الشرق الاوسط الجديد«، واستعادة »الشرق الاوسط القديم«. المنطقة أمام عودة معسكر »الاعتدال العربي« مرة أخرى، لكن بأجندة مغايرة. القمة العربية كانت انعكاسا مصغرا لهذه الرؤية التي مازالت في مرحلة التحضير.
ذوبان الثلج في العلاقات بين مصر والسعودية هو بداية لوضع الأساسات قبل الشروع في البناء عليها. لقاء العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، واصطحابه لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري على الطائرة الملكية إلى الرياض، هي إشارات على أن الوقت قد حان لانهاء المرحلة الأولى من الاستراتيجية الجديدة في مواجهة داعش، والانتقال إلى المرحلة الثانية وهي تطويق النفوذ الإيراني. لكن ثمة خلافات بين هذا الجسد العربي المهترئ من جهة، وبين الولايات المتحدة نفسها من جهة أخرى. محور الخلاف هو الدعم غير المسبوق لإسرائيل، ومشكلة نقل السفارة إلى القدس، والرغبة في دفن حل الدولتين.
اللقاء الثلاثي الذي جمع الرئيس السيسي بالملك عبدالله الثاني والرئيس أبومازن على هامش القمة هو تنسيق مبدأي قبل زيارة السيسي المقررة خلال أيام إلى واشنطن. سيتبع هذه الزيارة زيارتان مماثلتان للعاهل الأردني والرئيس الفلسطيني. لكن زيارة السيسي خصوصا هي الحجر الذي سيلقى في المياه الراكدة. هذا رجل عسكري سيلتقي بصناع قرار أغلبهم من العسكريين، وسيتحدثون معا بعقلية عسكرية.
هذه العقلية العسكرية صارت واضحة منذ أن تولى الجنرال جيمس ماتيس وزارة الدفاع. صرنا نرى اليوم تكثيفا لتواجد عسكري أمريكي في المنطقة، لكنه يجري بشكل تدريجي يقوم على اختبار مسرح العمليات أولا.
تفكير ماتيس يقوم على استخدام القوة المفرطة لانهاء الصراعات في أقل وقت ممكن. في معركة الفلوجة الثانية التي قادها ماتيس مع ريتشارد ناتونسكي اواخر 2004، كانت الأسلحة الثقيلة وتسوية شوارع كاملة بالأرض هي الوسيلة التي أنهت وجود القاعدة وتنظيمات متشددة أخرى في المدينة، واقتلعت بقايا الإرهابيين بعدما فشلت معركة الفلوجة الأولى التي قادها تيري كونواي بأسلوبه التقليدي البطيء في تحقيق ذلك.
هذا الأسلوب ظهر في معركة الجانب الأيمن لمدينة الموصل، التي تختلف كثيرا في القوة النارية المستخدمة وفي كثافة الهجمات عن معركة الجانب الأيسر التي بدأتها إدارة أوباما. هذا هو تصور مصغر لرؤية أكبر تشمل المنطقة كلها. التحالف العربي الذي يتم التمهيد الهادئ له يبدو أنه يحمل طابعا عسكريا.
بمجرد أن يجري الحديث على الطاولة عن الحلول العسكرية في منطقة الشرق الأوسط تلتفت الأنظار تلقائيا إلى مقعد مصر. السيسي في واشنطن للعثور على إجابات عما تستطيع الولايات المتحدة تقديمه في محاربة الإسلاميين واعادة الزخم إلى ملف المساعدات العسكرية الأمريكية، والعثور على نقطة توافق في القضية الفلسطينية. إذا حصل ذلك فستنطلق جولة جديدة من المفاوضات من دون تأخير.
لكن السيسي أيضا سيكون عليه الإجابة عن أسئلة: ماذا لدى مصر كي تقدمه في المقابل في استراتيجية حصار النفوذ الإيراني؟ هل صرنا أخيرا مستعدين للقيام بدورنا كقوة وحيدة تستطيع تحقيق التوازن في مقابل إيران وتركيا؟ هل صار لدى مصر أصلا رغبة في لعب دور إقليمي، بالنظر إلى عزوفها المتعمد المعروف منذ تولي الرئيس السيسي الحكم عن الإقدام على لعب هذا الدور؟
نحن أمام لحظة الحقيقية. في المحلة المقبلة لن يكون السؤال عن الاستعداد للعب دور، لكن السؤال سيكون عن طبيعة هذا الدور وتوقيته كخيار لا مفر منه.