إن هذا هو مايحدث دائما بعد الحروب والثورات، أى بعد الأحداث الحاسمة فى تاريخ الشعوب؛ حيث يتغلب الشعور الوطنى والإحساس
بالانتماء على المصالح الخاصة، وتصبح مسئولية نهضة الوطن فى عنق أبنائه أجمعين؛ قيادات وجماهير. أقول هذا لأننى لاحظت أنه بعد ثورة 30 يونيو وانتخاب الرئيس السيسى فى يونيو 2014 نام الجميع، وألقوا عليه مسئولية نهضة مصر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وسلوكيا وحتى فنيا!
وهنا أتساءل.. أين مشاركة كل مواطن فى مكانه فى تقدم مصر وتحديثها، سواء بالفكر أو بالعمل؟ وهل يستطيع الرئيس السيسى بمفرده أن يغير من سلوكياتنا، التى أصبحنا نضجر منها فى كل مكان وعلى كل المستويات؟! وإذا كان قد جاء فى القرآن الكريم: «إن الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، أوليست هذه دعوة للايجابية فى الحياة وعدم الارتكان الى من بيدهم الأمر فقط فى حل المشاكل؟!
لقد تصورت أنه بعد ثورتين، وبعد تجربة حكم «الإخوان» التى كانت ستعيدنا الى القرن الرابع عشر، أن يأخذ المواطنون زمام المبادرة فى كل المجالات، ويتصرفون بمسئولية ترتقى الى مستوى الأحداث، ولكن لماذا لم يحدث هذا؟ لماذا عاد المصريون الى أسلوب النقد الهدام والسخرية من كل شئ، حتى ولو كان هذا ضد مصالحهم؟!
هل يرجع ذلك الى قصور التنظيمات السياسية وضعف الأحزاب الموجودة على الساحة؟ وهل إصلاح ذلك من مهمة الرئيس؟! إنه إذا تدخل فى العمل الحزبى لتباكى الكثيرون على الديمقراطية! إن آفة العمل الحزبى المصرى من ثورة 1919 هى الصراع الشخصى داخل الأحزاب، وأكبر مثل على ذلك الانشقاقات المتتابعة التى حدثت داخل حزب الوفد منذ إنشائه، ففى 1922 خرج منه عدلى يكن وشكل حزب الأحرار الدستوريين، وفى 1939 خرج أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى وشكلا الحزب السعدي، وفى 1942 خرج مكرم عبيد وشكل حزب الكتلة، وكذلك فإن الطليعة الوفدية بقيادة محمد مندور، بعد أن فشلت فى التفاهم مع مصطفى النحاس فى بداية الخمسينيات، بعدت عن الحزب واشتركت مع الشباب الاشتراكى وشباب «الإخوان» فى العمل الفدائى ضد الانجليز فى منطقة القناة. هل هناك عوار فى عمل النقابات المختلفة التى لا أستطيع أن قول إنها متخلفة؛ بل على العكس وصلت الى المستوى العالمي؟! إن للنقابات دورا مهما فى إعادة البناء؛ لضمان مصالح أعضائها فى إطار المصلحة الوطنية.
وأتساءل.. هل يرجع ركون المصريين الى السلبية الى نفاد صبرهم بعد أكثر من ثلاثين عاما من الركود؟ أم يعود ذلك الى أننا نفسنا قصير وأصبحنا متقاعسين عن الاستمرار فى الكفاح فى كل مجالات الحياة؟
وإذ أُمعن التفكير فى هذا كله، تداعى الى ذهنى نموذج حى لدولة نهضت من كبوتها بعد أن هُزمت فى الحرب العالمية الثانية، ودُمرت تماما، وقُطّعت أوصالها، وأخطر من هذا كله الانكسار المعنوى الذى عانى منه شعبها لأجيال متعاقبة؛ إنها ألمانيا. ماذا فعلت هذا الدولة لتنهض وتصبح أكثر الدول الأوروبية تقدما اقتصاديا واجتماعيا، بل واستردت الأجزاء التى فصلت عنها، وحققت الوحدة التى حلم بها الشعب الألمانى لسنوات عديدة، برغم أعبائها الاقتصادية الهائلة؟ إذن لا شئ مستحيل مع الإرادة والتصميم والتخطيط والجدية والتفانى فى العمل والقيادة الوطنية النزيهة.
وإذا ماحاولنا أن نعدد أكثر المجالات التى انصب عليها النقد فى مصر، فنجد أن أولها الاقتصاد، ثم معضلة تأمين المواطنين ضد العمليات الإرهابية التى يقوم بها أتباع «الإخوان»، والتى تتخذ ميدانا لها مساحة مصر كلها. وثالثا الاستخفاف بالعملية الشاقة لإعادة امتداد السياسة الخارجية المصرية لتشمل العالم كله. ويضاف الى ما سبق الشكوى من الروتين الحكومى الذى يهدر حقوق المواطنين. ثم الضجر من سياسة التعليم ومشكلة النظافة، وحتى أزمة المرور فى القاهرة التى تظهر المصريين على أسوأ ما يكون!
أولا: الأزمة الاقتصادية:
كلنا يعرف أننا نمر بأزمة اقتصادية عنيفة بدأت منذ عشرات السنين ولم تُتخذ أى حلول جذرية بصددها فى وقتها، ونتج عنها أن أصبح نصف الشعب المصرى تحت مستوى الفقر! بل والأكثر من ذلك أننا حين أردنا التنمية فإذاباقتصاد العالم كله يعانى الانكماش، ولولا وقوف الإخوة العرب الى جانبنا لكانت الأحوال أسوأ من ذلك بكثير. فهل نتصور أنه فى الإمكان إيجاد حلول لمشاكلنا الاقتصادية المتراكمة فى 11 شهرا هى مدة حكم الرئيس السيسي؟!
وباختصار فإن أزمتنا الاقتصادية تتلخص فى انخفاض الانتاج وتزايد الاستيراد، وعدم العدالة فى توزيع الناتج القومى المحدود بالنسبة للسكان، وإنعدام تكافؤ الفرص، وتركز الثروة فى أيد قليلة تحجم عن المشاركة فى الاستثمار الاقتصادي.
وهنا يكمن أس الحملة الاعلامية الضخمة التى يتعرض لها نظام الرئيس السيسي، وخاصة أنه تحدث عن العدالة الاجتماعية؛ وهو تعبير تنفر منه الرأسمالية المستغلة وتحاربه!
إن هؤلاء الفاسدين يريدون أن يقدموا أنفسهم فى الانتخابات القادمة، على أنهم البديل الذى يمكن أن يحقق الاصلاح بالنسبة للرواتب والأسعار والكهرباء والبوتاجاز والإسكان.. إلخ. وهنا أتساءل.. هل يظنون أن الشعب المصرى ساذج الى هذه الدرجة؟! قد تكون نسبة الأمية عالية، ولكن لا يمكن خداع الشعب المصري، وأقول هذا عن تجربة عشتها وجزء آخر من تاريخنا قرأت عنه بتعمق.
لقد جربنا حكم الرأسمالية المستغلة مرتين فى تاريخنا؛ بعد دستور 1923 وحتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، ثم بعد أن أعلن الرئيس السادات عن سياسة الانفتاح بعد حرب أكتوبر 1973 وحتى قيام ثورة 25 يناير 2011.
ماذا كان حال الشعب المصرى فى كلتا المرحلتين؟ أعتقد أن الموضوع لا يحتاج الى الإطناب.. تدهور الاقتصاد وتعثر الانتاج، أصبحنا نستورد كل شئ من الخارج وخاصة من الغرب الذى ضغط علينا لإغلاق بعض مصانع القطاع العام وبيع عدد كبير من الناجح منها؛ حتى يحقق مصالحه ويفتح أسواقا فى بلدنا لمنتجاته. وفى نفس الوقت انتشرت البطالة بين الشباب، وتدهور مستوى معيشة السواد الأعظم من الشعب وضُربت الطبقة الوسطي.
إننا الآن والحمد لله - يحكمنا نظام وطنى يريد الثروة الوطنية لكل المصريين، ولكن نحن فى حاجة الى تخطيط اقتصادى محكم، وبرنامج للتنمية والتحديث فى كل المجالات الاقتصادية، وأهمها الصناعة التى تفتح فرص العمل للشباب. ونحن لا ينقصنا الخبراء الاقتصاديون، فقد قام على أكتاف هؤلاء فى السنوات الماضية اقتصاد الدول العربية والإفريقية.
وأعتقد أن أنسب نظام اقتصادى لنا هو الاقتصاد المختلط، الذى يقود التقدم فيه القطاع العام، ويعطى الفرصة للرأسمالية الوطنية أن تساهم وتربح، أما حجم كل من القطاعين فيحدده البرلمان بناء على اقتراح الحكومة.
وهنا أعود الى ألمانيا، فهم يطبقون منذ الحرب العالمية الثانية نظاما يسمى «اقتصاد السوق الاجتماعى Social market economy»، فتلتزم كل الشركات بالمساهمة فى النهوض الاجتماعى والاقتصادى للدولة. واستقر العرف أن كل الأحزاب التى تصل الى الحكم - سواء من اليمين أو اليسار - تتعهد بتطبيق هذا النظام، أى أن هناك توافقا بين الجميع على ذلك.
وليست ألمانيا فقط هى التى تتميز بالاقتصاد المختلط وإنما أيضا فرنسا وبريطانيا وغيرهما من الدول الأوروبية. أما النموذج الرأسمالى الجشع الذى شهدناه فى مصر، فقد اختفى من العالم، وحتى فى الولايات المتحدة فإنها تطبق إجراءات اجتماعية لتوازن مبدأ إطلاق الربح مع قدر من العدالة الاجتماعية، كما تفرض ضرائب باهظة، وتطبقها بنظام صارم يضمن عدم التهرب الضريبى الذى نعانى منه.
ثانيا: تأمين الشعب المصري:
من جانب آخر تواجه مصر نشاط أتباع جماعة «الإخوان المسلمين» الذين يطلقون حملات التشكيك والشائعات، ويخططون وينفذون عمليات الإرهاب - التى قلت الى حد كبير حتى يقيموا الدليل على عدم الاستقرار، وينفروا المستثمرين الأجانب. إن «الإخوان» مازالوا يعتقدون أنهم راجعون الى الحكم! وقد شكلوا قيادات فى الخارج وخاصة فى قطر وتركيا وعينوا قيادات شابة فى داخل مصر ليحلوا محل قياداتهم السابقة التى تحاكم، وهذا من أحاديثهم فى الخارج!
ونحن نحتاج الى مجهود كبير من المواطنين لإقناع المضَلَل من الشعب بحقيقة هذه الدعوة الهدامة، والإعلام هنا له دور كبير.
ثالثا: تجديد السياسة الخارجية المصرية:
وأسمع فى الفضائيات الآتي: كفانا سياسة خارجية، نريد الالتفات الى الداخل! وأتذكر أن هذا المعنى كان يُردد من أعداء عبد الناصر فى عصره، وهؤلاء قطعا مغالطون؛ فامتداد العلاقات بين الدول يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني، كيف؟ فتح أسواق جديدة لمنتجاتنا فى الخارج، حل المشاكل المعلقة بين الدول كمشكلة سد النهضة، توقيع الاتفاقيات الاقتصادية والخاصة بالسلاح بأحسن الشروط، كما حدث مؤخرا مع روسيا وفرنسا، فتح الباب للاستثمار الأجنبي.. إلخ.
وإننى لا ألقى بالا لهؤلاء الذين ينتقدون التوسع فى العلاقات الخارجية وتعدد زيارات الرئيس السيسى للدول العربية والأوروبية والإفريقية، بل أومن بأنه فى عصر الاتصالات والمعلومات يكون للقاءات الشخصية تأثير كبير فى السياسة.
وأتذكر أنه فى المباحثات المتعددة بين عبد الناصر والقادة السوفيت أثناء حرب الاستنزاف، كيف كان برجنيف وبادجورنى يستفسران عن مدى قوة علاقاتنا مع الدول العربية والإفريقية، ولن أنسى تلك المباحثات التى جرت فى موسكو فى يونيو 1970 بعد ثورة ليبيا، ومدى الاهتمام الذى بدأ بالعلاقات بين عبد الناصر وقائد الثورة الليبية معمر القذافي.
إن المكانة التى أصبحت تتبوأها مصر فى الخارج هى بلا شك رصيد مهم، يعلى من شأنها ويساعدها على تحقيق أهدافها.
رابعا: الإسراع فى الإصلاحات الحكومية:
إنه جهاز أصابه الفساد على مدى سنين طويلة، وله تاريخ فى سيطرة الروتين يعود الى الفراعنة. وقد لاحظت وأنا أقرأ محاضر جلسات مجلس الوزراء ومجلس الرئاسة واللجنة التنفيذية العليا فى الخمسينيات والستينيات، أن عبد الناصر نادى أكثر من مرة بالثورة فى الجهاز الحكومى وبالقضاء على الفساد فيه، وإذا كان قد أحدث تغييرات عدة، إلا أن النتيجة لم تكن كما أراد!
وهنا اقترح عقد مؤتمر لتجديد حكومتنا ووضع برامج حديثة للعمل داخلها، وأهم شئ الثواب والعقاب. وأدرك تماما أن ذلك لا يمكن أن يتم فى شهور بل بالإصرار خلال سنوات، وبمشاركة الموظف الحكومي، الذى يجب أن نحل مشاكله ونضرب على يده ليبعد عن الفساد والرشاوي.
خامسا: استعجال حل أزمة المرور:
إن ما يؤججها هو سلوكيات المصريين غير المقبولة فى الشارع. لقد كنت فى باريس من أربعة أشهر لحضور ندوة عن مصر، ووجدت المرور هناك فى الطريق من المطار الى الفندق مزدحما مثل القاهرة تماما. وهنا أحسست أنها مشكلة بلا حل، وإلا كان الفرنسيون اتبعوه. إنما ما خفف من المشكلة هناك هو إتباع سائقى السيارات جميعا بدقة لقواعد المرور، فكل منهم يعرف حدوده وحقوقه.
إذن هل يمكن للشرطة وحدها أن تحسن المرور؟ لا أعتقد ذلك؛ فالقوانين موجودة ولكن ليس الجميع يتبعونها، وبالطبع لا يمكن وضع شرطى مرور فى كل مكان! فمثلا فى أوروبا سائق السيارة يقف فى الإشارة حتى لو كان الشارع الآخر خاليا، هل نفعل نحن ذلك؟! إننا للأسف نجد سيارات لا تحترم الإشارة حتى فى وسط العاصمة!
سادسا: مشكلة النظافة:
وهنا يجب أن تقوم الحكومة بسرعة بإيجاد أساليب وتمويل لحلها، وفى هذا يمكن أن نحاكى الدول الأخري، كذلك لا بد من برنامج لتوعية الأفراد بهذا الموضوع، فيجب ألا ننسى أننا بلد سياحى وأن النظافة تخفض تكاليف العلاج. ولكن ينبغى هنا تذكر المثل الفرنسى «لا توجد أزهار فى بيت بلا خبز»!
إن لدينا مشاكل كثيرة فى جميع المجالات وخاصة أيضا فى التعليم والإعلام والزراعة والتصدير.. إلخ، من الذى سيقوم بحلها؟
إننا إذا لم نتعاون مع النظام كل فى موقعه ونبّدى المصلحة العامة على المصلحة الخاصة فلن يستطيع أن يحل كل مشاكلنا بمفرده.
وفى المقابل فمن واجب النظام أن يقدم الحلول والبدائل، كما يحدث الآن، ولكن على نطاق أشمل بوضع خطة اقتصادية مناسبة تراعى القيم الاجتماعية التى يدعو إليها وبالذات العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص - ويؤيده فيها الشعب، ثم يحدد أولويات التنفيذ وبرامجه، وأخيرا يطالب الشعب بأن يقوم بدوره الإيجابى فى كل هذا، وإننى واثقة أنه لن يتقاعس بل سيضرب المثل كما فعل بالنسبة لمشروع قناة السويس.
وأحب أن أختم باقتراح فى غياب التنظيمات السياسية القوية؛أن يقوم النظام بحملة تعبئة للشعب على مدى طويل، كما حدث أثناء حرب الاستنزاف لأكثر من ثلاث سنوات من يونيو 1967 الى سبتمبر 70 - يلعب فيها الإعلام المصرى الرشيد الدور الأساسى الذى يصاحب انجازات الحكومة المستقبلة.
وأوصى بتعيين وزير للإعلام يكون ملما بأهداف الحكومة وسياستها من خلال حضوره لمجلس الوزراء. إن مصر فى وقتنا هذا بالذات، تتعرض لحملات كراهية شديدة هدفها التأثير السلبى على الشعب، ووجود الوزير يسهل وضع خطة للإعلام المحلى والخارجي، تنفذ بدقة على مستوى شامل مترابط، حيث يحتاج الأمر الى قرارات سريعة وإدارة حازمة.
إننا فى النهاية يجب أن نتعاون فى إطار ديمقراطي، وتكون أعيننا دائما على مصر فى كل خطوة؛ حتى نسهل للقائد القيام بدوره فى فترة حاسمة من تاريخ وطننا الغالي؛ فنحن فى حالة ثورة على التخلف والفساد والإرهاب، وهى لا تقل عن حالة الحرب من حيث خطورتها ومتطلباتها.