المصرى اليوم
محمد كمال
إعادة اختراع السياسة
دونالد ترامب، الذى يلتقيه الرئيس السيسى، اليوم، فى العاصمة الأمريكية واشنطن، يمثل ظاهرة فريدة، ليس فقط بسبب ما يطرحه من أفكار غير تقليدية بشأن العديد من القضايا الداخلية والخارجية، ولكن أيضا لأنه يحاول إعادة اختراع السياسة كما نعرفها وتعودنا عليها.
السياسة وأدواتها مثل الأحزاب والبرلمان.. إلخ، هى اختراع بشرى مثلها مثل أجهزة التليفون والتليفزيون والكمبيوتر، ولكن هذه الأدوات الأخيرة تم إعادة اختراعها وتطويرها أكثر من مرة، من التليفون الثابت للمحمول إلى التليفون الذكى، ومن أجهزة الكمبيوتر التى تملأ حجرة بأكملها إلى الكمبيوتر الشخصى. ولكن للأسف فإن السياسة وآلياتها الأساسية لم تشهد مثل هذا الحجم والسرعة فى التطوير، حتى تجمد بعضها أو انتهت صلاحيته أو أصبح غير ملائم للعصر الذى نعيش فيه.

ترامب أعاد اختراع العديد من عناصر العملية السياسية أو قدم بديلاً لها. على سبيل المثال تعودنا أن نعطى أهمية كبيرة للأحزاب السياسية باعتبارها آلية لبلورة وطرح الأفكار السياسية، وأداة للتواصل بين أهل السياسة والجماهير، ومؤسسة لتعبئة الناخبين ومساندة المرشح الحزبى فى الانتخابات. الصعود السياسى لترامب وفوزه بالرئاسة أثار الشكوك حول هذه الأدوار الحزبية، بل وطرح سؤالا أكبر هو: هل الأحزاب لاتزال لها أهمية فى العملية السياسية، أو هناك حاجة لدورها؟

ترامب لا ينتمى لكوادر المؤسسة التقليدية للحزب الجمهورى الذى ترشح باسمه، بل انضم للحزب لمجرد تسهيل إجراءات ترشحه، واستطاع التعرف على قاعدته الانتخابية بالاستعانة ببنوك المعلومات التى تحتوى على قوائم وتفضيلات الناخبين وتوزيعهم الجغرافى، ودون الحاجة لأى مساعدة من حزبه، كذلك قام بالتواصل معهم من خلال أدوات الاتصال الحديثة والشبكات الاجتماعية على الإنترنت، وقام بتعبئتهم للتصويت له من خلال هذه الأدوات وليس من خلال الماكينة الحزبية الموجودة على الأرض، وكل ذلك تم بتكلفة مالية محدودة، ودون الحاجة للحزب ومؤيديه لتمويل الحملة الانتخابية.

الصعود السياسى لترامب عكس أيضاً الأزمة الفكرية التى يعانى منها العديد من الأحزاب، حيث فقدت هويتها وتميزها الأيديولوجى، وأصبح من الصعب التفرقة بين توجهاتها فى مجالات السياسة العامة، وتقوقع معظمها فى منطقة الوسط، سواء يمين الوسط أو يسار الوسط، وقد أتاح ذلك الفرصة للأفكار الشعبوية التى تبناها ترامب لأن تجذب خيال الناخب بما تقدمه من طرح غير تقليدى للقضايا المختلفة.

يرتبط بما سبق أيضاً تزايد عدم الثقة فى المؤسسات السياسية، سواء البرلمان أو الحكومة، واتساع الفجوة بين المواطنين والنخبة السياسية بشكل عام، بما فيها النخبة الفكرية والإعلامية، وتنامى الاعتقاد بأن هذه النخبة تعمل لمصلحتها الشخصية وليس لمصلحة المواطن، وتسعى للحفاظ على الأوضاع القائمة وليس تغييرها. وترتب على ذلك ضعف معدلات مشاركة المواطنين فى التصويت، أى أنهم كما يقول المثل الإنجليزى أصبحوا يصوتون بأقدامهم، وذلك بالابتعاد عن مراكز الاقتراع، وتنامت أيضا ظاهرة انخفاض معدلات مشاهدة أو قراءة وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية، والتى تسيطر عليها النخب الفكرية والإعلامية.

الخلاصة هى أن السياسة- كما عرفها العالم لعقود طويلة- تشهد أزمة كبرى، والعديد من أدواتها وآلياتها فقدت مصداقيتها، أو لم تعد قادرة على التعامل مع مطالب المواطن، وأصبحت هناك حاجة لإعادة اختراعها كى تتماشى مع طبيعة ومطالب العصر الذى نعيش فيه.

هذه الأزمة السياسية لا تواجه الولايات المتحدة والدول الغربية فقط، بل نشاهد العديد من مظاهرها فى مصر، خاصة ما يتعلق بانصراف المواطن عن الأحزاب السياسية، وفجوة الثقة تجاه بعض المؤسسات والنخب السياسية والإعلامية.

ما يطرحه ترامب لا يمثل بالضرورة الحل الأمثل، ولكنه يوضح الحاجة الملحة للابتكار والتجديد لمواجهة هذه الأزمة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف