التحرير
أحمد بان
الحوار طريق الاستقرار
هذا المعنى الذى أكدته أعمال ندوة نظمتها وزارة الداخلية بأكاديمية الشرطة، دُعِىَ إليها عدد من المهتمين بملف التطرف والإرهاب وبعض قادة الرأى والمفكرين، حيث وردت عبارة على لسان الخبير الأمنى المخضرم اللواء فؤاد علام تقول، "الحوار مُجدٍ حتى مع الذين تلوثت أيديهم بالدماء" استغرب مدير الحلقة النقاشية العبارة وأبدى اندهاشه، الذى لم يغير إصرار الرجل على ما يقول وهو الذى يستند إلى خبرة حياتية وأمنية وسياسية عريضة، قلما توفرت لغيره من رجال الدولة المصرية، وهو الذى رعى أكبر عملية مراجعة فى مسيرة تاريخ العنف فى مصر، عندما دفع اللواء أحمد رأفت للإشراف على أكبر عملية مراجعة فكرية جرت تحت أعين وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة، يوم أنْ كان لا يزال يؤمن بالتدابير الناعمة بديلا عن التدابير الخشنة، كما سماها الدكتور ناجح إبراهيم، الذى ثنى فى نفس الندوة على كلام اللواء فؤاد علام وقد كان شريكا فى إتمام هذه المراجعة، التى جنبت الدولة المصرية انخراط 20 ألف عنصر من عناصر الجماعة الإسلامية فى ساحة العنف، عن قناعة كاملة صنعها الحوار الهادئ العقلانى. تجربة الحوار داخل السجون يوم أنْ توفرت لها إرادة سياسية داعمة، وعقلية أمنية لا تفتقر إلى الحس السياسى والاتصال بالواقع والقدرة على استشراف المستقبل والاستثمار فيه، قد أثبتت هذه المراجعة نجاحها إلى حد أن مصر تحولت إلى بيت خبرة عبر قيادات فكرية مثل الدكتور ناجح إبراهيم، الذى يعد مثالا واضحا للاستنارة الفكرية والثقة من كل الأطراف ودليلا ناصعا على ثمرات الحوار والمراجعة. شاهدت بنفسى كيف يقبل البسطاء عليه، يلتقطون الصور معه، وفى عيونهم ترى اطمئنانا ومحبة وإكبارا، هذا المثال من أبرز الأمثلة على أن الحوار يستطيع أن يغير حال الإنسان من النقيض إلى النقيض، كثير من قيادات الجماعة الإسلامية تحولوا إلى رموز تحظى بثقة مجتمعاتهم ولم يكن حصول حزبهم الوليد "البناء والتنمية" على 13 مقعدا فى برلمان 2012، سوى تأكيد لهذه الثقة المجتمعية التى استندت إلى تجربة غنية، لا شك. هذه الندوة التى حملت عنوان "مواجهة الفكر المتطرف" أكدت لدىّ هذا المعنى الذى أرمى إليه، عبر ما أكده اللواء فؤاد علام الذى يصنف تقليديا من مؤيدى وداعمى الدولة المصرية فى كل عناوينها وعصورها، وبالتالى لا يحمل رأيه أو اجتهاده أى مظنة لمحاباة التيارات المتطرفة، إخوانا وسلفيين وجهاديين، حيث من المعروف أنهم يعادون الرجل تاريخيا، بل وتتهمه جماعة الإخوان بأنه قتل كمال السنانيرى فى عام 1981 وأشرف على تعذيبه بنفسه، وبالرغم من هذه الصورة السلبية التى حرصت دعاية الإخوان على تكريسها عن الرجل فإنه لا يزال مقتنعا بفرضية الحوار وأهميته كطريق وحيد للاستقرار. من المدهش أن ندوة أخرى نظمتها صحيفة "الثورة السورية" المحسوبة على النظام السورى منذ أربعة أعوام، خلصت فى منتدى الثورة الحوارى إلى أن الإقصاء غير مجد، والحلول يجب أن تكون سياسية اقتصادية اجتماعية، واللجوء إلى دولة القانون لإلغاء الأساس الذى يستندون إليه (أنهم مظلومون)، وتحقيق العدالة الاجتماعية والعودة إلى المنظومة الاجتماعية التى تقدم خدمات للناس، وتشجيع الخطاب الدينى المعتدل ونعود إلى قضية التربية والتعليم وإنتاج أدوات جديدة لنستطيع التمكن من مواجهة الإخوان المسلمين.

تأملوا تلك التوصيات التى صدرت من أكثر الأنظمة عداء للإخوان، وبالرغم من ذلك خلص إلى أن الحوار والسياسات الجديدة وتشجيع الاعتدال، هى السبيل للمواجهة. قلت وأكرر إن الأمن بعنصريه، القوات المسلحة والشرطة، يخوض المواجهة مع الإرهاب فى غياب أى جهد مكافئ لمؤسسات الدولة الأخرى، بينما كان ينبغى أن تنشغل هى بهذه المواجهة الفكرية لكن يبدو أن الداخلية لم تعد قادرة على الانخراط فيها بنفس الهمة السابقة، ربما لسببين، الأول هو غياب إرادة سياسية داعمة للحوار، والثانى تهميش من يؤمنون بالحوار والتدابير الناعمة لحساب من يسيطر عليهم وهْم الحسم الأمنى وإشباع نهمة الانتقام، ممن يظنونهم حرضوا على الثورة فى "يناير" ولم يكن ذلك صحيحا. مصر بحاجة إلى الحوار، ليس فقط مع الجماعة الإسلامية أو الإخوان أو السلفيين أو كل الكيانات الحركية التى تناهض الدولة الوطنية بصيغ مختلفة، لكنها بحاجة إلى حوار مع كل الشعب المصرى بقواه الحية، مصر أوسع بكثير من جماعات الإسلام السياسى أو الأحزاب التى يخاصمها النظام، لكن الشعب كله يدفع أثمان تلك الخصومة، كما أن شبابها أوسع من هؤلاء الذين اختيروا بعناية ليحظَوْا بشرف الجلوس مع الرئيس فى منتدى شهرى يبتذل الحوار مع الشباب ليكون حقا للموالاة دون المعارضة. إذا كانت الدولة قد جنبت الشعب فاتورة العنف الذى كان من الممكن أن يتفاقم بعد نجاحها فى رعاية مراجعات الجماعة الإسلامية، فما زال بإمكانها تأمين استقرار أكبر بالانخراط فى حوار يدفع الإخوان دفعًا للمراجعة التى يريدونها، لكنهم يخشون أن يقدموا للدولة تنازلا مجانيا يغرى الدولة بالضغط أكثر عليهم. فى الإخوان قطاعات واسعة كفرت بالسياسة، لكنها لم تكفر بالدعوة، وتريد أن تبقى فى رحاب العمل الدعوى، ولا ترى غضاضة فى أن يكون ذلك تحت مظلة الدولة ومؤسساتها الرسمية، ومن يتابع منتديات الجماعة الحوارية يدرك أن كثيرا من الأشياء قد تغيرت وكثيرا من القناعات تبدلت وجاء دور الدولة لتأخذ بزمام المبادرة وتطلق حوارا جادا يمضى بمصر نحو المستقبل.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف