كم مرة استمعت إلى تعبير حروب الجيل الرابع باعتباره المفهوم الحاكم للحرب التى تتعرض لها المنطقة العربية منذ بداية العقد الحالي؟
كثير من المرات ذكر التعبير على لسان الخبراء فى التحليل الإستراتيجي، وجميعهم سوف يذكرون لك تاريخ هذا المفهوم (1989) ومن الذى صكه (وليام لند)، ومضمونه إنها الحروب التى لا تميز بين الحرب والسياسة، ولا بين المقاتلين والمدنيين، وأنها تستهدف ليس أراضى الدولة وإنما الدولة نفسها بقيمها الأساسية وقدرتها على الاحتكار الشرعى لاستخدام القوة المسلحة. ما بعد ذلك يوجد الكثير من التفاصيل حول سمات الحرب وأشكالها والفارق بينها وبين أنواع الحروب الأخري. كل ذلك لا بأس به من حيث الثقافة العامة، والتوعية فى ضوء إطار نظرى بما تتعرض له مصر وغيرها من الدول العربية من تهديدات. وبعد ذلك لا يوجد الكثير الذى يمضى قدما فى كيفية الدفاع عن الدولة، فى هذه الحالة مصر، ضد هذا النوع من الحروب، خاصة أن رأس الحربة فيه هو تدمير الوعى بالدولة أو القيم الأساسية فيها.
على سبيل المثال فإن الدستور المصرى يكرس لهذه القيم المحورية أو Core Values التى تقوم عليها الدولة. وأولها هى الصيرورة والاستمرارية التاريخية للدولة المصرية التى احتوت شعبا مصر يا على مر العصور. من فجر التاريخ حتى الوقت الراهن كان هناك وجود لمصر كدولة تتابعت عليها الحضارات وتوالت إلا أنها بقيت الوعاء الذى يخرج على الإنسانية أعظم ما فيها. منذ البداية تطلعت مصر إلى السماء، وكان فيها النبى موسى كليم الله، وجاءتها العذراء مريم وطفلها المسيح عيسي، وتزوج منها خاتم المرسلين والأنبياء ومع الفتح العربى كانت الحضارة العربية الإسلامية، ومنها اطلعت مصر وتبنت الحضارة الحديثة. هذه الصيرورة والاستمرارية غير مقبولة من الجماعات الإرهابية التى تهاجم مصر الآن، فمصر بالنسبة لها تبدأ مع الفتح العربي، وما قبلها يصير أشبه بدول أخري؛ ومن ثم كانت النظرة الكارهة لدى جماعة الإخوان والمنظمات الإرهابية الأخرى إلى تاريخ مصر والرغبة الظاهرة فى التغطية عليه وعلى آثاره وتأثيره على الحضارة المصرية المعاصرة. وبنفس الطريقة فإن استمرارية مصر فى الاحتواء الحضارى للديانات السماوية تصبح هدفا للتمييز من خلال استهداف المسيحيين سواء فى كنائسهم أو فى أماكن إقامتهم كما جرى مؤخرا فى العريش. الحرب هنا ليست على الأشخاص فقط، أو دين بعينه فحسب، وإنما هى على قيمة من قيم الدولة العليا.
قيمة عليا أخرى ينص عليها الدستور المصرى بوضوح كامل فى المادة الأولي: جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها، نظامها جمهورى ديمقراطي، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون. وقبل ذلك، وفى ديباجة الدستور جاء تحديد الهدف منه: نحن ـ الآن ـ نكتب دستورا يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية. هذه القيمة العليا للجوهر السياسى فى الدولة هى الهدف الرئيسى للحركات الإرهابية التى تريد بدلا من القانون أن تكون الشريعة كما يرونها، وليس كما حددها الدستور وفقا لأحكام المحكمة الدستورية العليا. وبدون الدخول فى تفاصيل قانونية وسياسية كثيرة فإن الحرب الإرهابية فى جوهرها هى هز الاعتقاد لدى الغالبية العظمى من المصريين فى معتقداتهم السياسية الأساسية سواء كان ذلك فى تاريخ مصر، وما تحتويه من ثقافات وديانات، أو فى جغرافيتها التى تحدد حدودها الواجب الدفاع عنها. ففى ظل فلسفة ذات طبيعة كونية وعابرة للحدود، ومتجاوزة للدولة الوطنية، فإن الحدود لا يصير لها معني، ولا يوجد فارق ما بين مصر وماليزيا!.
خط الدفاع الأول عن مصر وقيمها هو دستورها ومؤسساتها، ومن ثم فإن الحرص عليها من جانب الأفراد والجماعات لا يقل أهمية عن الجهود والتضحيات التى تقدمها القوات المسلحة والشرطة. ولكن الجهد الأمنى هنا يصير جزءا من الحرب وليس كلها، فكلما وقر فى عقل وقلب المواطن المصرى قيمه العليا للدفاع عن الوطن فإن الإرهاب يكون قد خسر أكبر معاركه. وكذلك الحال بالنسبة للمؤسسات والسلطات المختلفة التى فصل الدستور بينها، ووازن بينها أيضا، والتى لا يجوز لها أن تشق الصف الوطنى على القيم الأساسية التى وضعها دستور الدولة. ومن هنا فإن الخلاف الجارى بين السلطة القضائية ومجلس النواب حول قانون السلطة القضائية رغم أنه أولا طبيعى فمثل ذلك يحدث فى معظم الدول الديمقراطية؛ فإنه ثانيا لا ينبغى له أن يتحول إلى مواجهة سياسية تجرى فيها التعبئة والحشد بين أهم سلطات الدولة، وأعظم أركانها فى التشريع والقضاء. وفى الولايات المتحدة فإن رئيس الدولة، وفقا للدستور، يختار قضاة المحاكم الفيدرالية، وقضاة المحكمة الدستورية العليا، مع مصادقة الكونجرس على هذا التعيين. فى دول أخرى فإن قاعدة الأقدمية تكون هى السبيل للحفاظ على استقلال القضاء من تجاوزات السلطة التنفيذية. كل ذلك مفهوم مع تعدد التجارب العالمية، وإنما غير المفهوم هو تجاوز مفهوم الفصل بين السلطات إلى منطقة الصراع السياسى بينها لأن ذلك يخل بمناعة الدفاع الوطنية عن القيم العليا الموجودة فى الدستور. وفى حالة مثل مصر فإن لجنة هادئة من الجانبين تعمل بعيدا عن الإعلام يمكنها دائما أن تصل إلى حلول ربما لا تسعد الجميع، ولكنها سوف تجعلهم أقل تعاسة.
قوة الجبهة الداخلية، وسلامة التوافق حول الاعتقاد فى قيم الدولة العليا، هم أول خطوط الدفاع عن الوطن فى مواجهة الجيل الرابع من الحروب. وبالطبع فإن هناك ما هو أكثر ينبغى فعله لعل أهمها مواجهة القيم الأساسية للإرهابيين لأنها تفسد عليهم قدراتهم فى تجنيد الإرهابى ودفعه فى المهام العسكرية؛ ولأنها تشكل قدراتهم على بناء التحالفات مع الجماعات المشابهة والتى تشكل أفكار الإخوان المسلمين قاعدتها الأساسية. ولكن هذه قضية أخرى تحتاج مقالا آخر!.