الأهرام
محمد ابو الفضل
قفزة حماس الجديدة
الأجواء التى أشاعتها التسريبات الأخيرة بشأن وثيقة حماس الجديدة، جعلت البعض يتوقع منها حدوث قفزة سياسية تتماشى مع التطورات الإقليمية
التى قد تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، وأن الحركة ذات التوجه الإسلامي- الإخوانى عازمة على التعامل بقدر من المرونة تتواكب مع التحديات التى تواجهها فى الداخل والخارج، ومن الأعداء والأصدقاء.

قصة إصدار حماس وثيقة جديدة خلال أيام هدفها الإيحاء بأنها تتسم بدرجة عالية من الليونة، وعلى استعداد للتكيف بشكل أكبر مع المستجدات، لتضمن لها مكانا مناسبا تحت شمس الترتيبات السياسية المقبلة فى المنطقة.

منذ صدور وثيقة التأسيس الأولى فى أغسطس 1988، والحركة تزعم أنها متمسكة بما تضمنته من ثوابت حيال الصراع مع إسرائيل ومقاومتها بل وإزالتها من الوجود، مع أنها لجأت فى أحيان كثيرة إلى ما يمكن وصفه بمبدأ التقية الشيعي، وتواصلت مع جهات تندرج تحت لافتة الخصوم والأعداء.

المعلومات التى تناثرت بشأن مضمون الوثيقة تشير إلى تغير ظاهر فى ثلاث قضايا محورية، على علاقة قوية بالتقديرات الإقليمية والدولية لكل منها، واختيرت بعناية لأنها توحى بأن الحركة قابلة للحياة وقادرة على التأقلم مع أى حسابات معقدة.

الأولي، تتعلق بالموقف من إسرائيل، وتتجه حماس إلى تعديل رؤيتها السابقة والإقرار بوجود إسرائيل كأمر واقع، ما يعنى التخلى عن أحد ثوابتها الرئيسية والاعتراف بها وعدم استبعاد التعامل معها فى العلن، فوسط حديث التسوية السياسية والتأييد الذى تحظى به عربيا وأمريكيا وأوروبيا وروسيا، متوقع أن يتسع نطاق الكلام للجلوس على مائدة مفاوضات جديدة بين الفلسطينيين وإسرائيل.

وفى هذه الحالة لن تكون مقاطعة حماس أو تنديداتها الراديكالية مقنعة، وعليها الاختيار لتكون فى صف المعارضة أم جزءا فى صفقة سلام شاملة، بصرف النظر عن طبيعة النتيجة التى سوف تستقر عليها التسوية.

الثانية، تخص الموقف من الدولة الفلسطينية، ومرجح أن تؤيد الوثيقة الجديدة حل الدولتين، إحداهما فلسطينية والأخرى إسرائيلية، وهو تطور لافت فى الخطاب السياسى لحماس، التى تعتبر وثيقتها الأولى أرض فلسطين للشعب الفلسطينى فقط، وعلى الاحتلال الصهيونى الرحيل ومقاومته بكل ما توافر من قوة، وبعد التعديلات المتوقعة، ستجد الحركة نفسها فى مأزق البحث عن إجابة لجدوى استمرار خطاب المقاومة وتفسير الاحتفاظ بجناحها العسكرى (كتائب عز الدين القسام).

الثالثة، هى العلاقة مع جماعة الإخوان، التى تعتبر فى الوثيقة الأولى الحركة الأم، وحماس أحد فروعها، وفى هذا السياق جرت مياه كثيرة، معظمها يصب فى باب المراوغة، لإيجاد حل لهذا المأزق، فإذا أعلنت رسميا التخلى عن الجماعة تخسر بعض أنصارها، وإذا احتفظت بعلاقتها معها وضعت فى مواجهة مع دول عربية كثيرة تعتبر الإخوان جماعة إرهابية، كما أن بعض الدول الغربية بدأت تغير مواقفها وتحمل الإخوان مسئولية العنف والإرهاب فى المنطقة، وإصرار حماس على الالتصاق يفقدها المصداقية ويعرضها لمزيد من الانتقادات.

المؤكد أن الوثيقة فرضتها تقديرات خارجية ولم تأت من رحم قناعات داخلية، فحماس وجدت الموقف العام يسير ناحية تغيير الكثير من ملامح الخريطة التقليدية فى المنطقة، وثورات الربيع العربى أخلت بتوازنات إستراتيجية متعددة، صبت حصيلتها فى مصلحة إسرائيل، بالتالى لم تعد الأدوات والرؤية والمنهج الذى تتبناه حماس مجدية فى الوقت الراهن، وعليها تبنى مواقف ترفع من المواءمات التى يمكن أن تنقذها من صعوبات تحدق بها ومن جهات مختلفة، ولم تجد أفضل من تغيير النظرة إلى إسرائيل، لتقفز فوق مجموعة كبيرة من المطبات.

النظرة المنسجمة مع المعطيات الإقليمية، تجبر حماس على الحد من اللعب على المتناقضات، لذلك فقدرتها على الجمع بين دول متنافرة لن تكون صالحة، ما يفرض عليها التخلى عن علاقتها مع دولة مثل إيران أصبحت هدفا صريحا لبعض القوى الدولية، وضرورة التوافق مع كل من مصر والأردن باعتبارهما من ركائز التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، ما يعنى أنه لن يكون مقبولا أستمرار الحركة كأداة طيعة فى يد كل من قطر وتركيا.. الواضح أن لدى قيادة حماس قدرة على التلون السياسي، والمواقف التى مرت بها تعزز هذا الاستنتاج، فهى رفضت اتفاقيات أوسلو التى أفضت إلى السلطة الفلسطينية واستفادت من نتائجها فى السيطرة على قطاع غزة، وخاصمت منظمة التحرير الفلسطينية علانية ولم تعدم وسيلة للحوار والتفاهم مع أعضائها، ولم تعترف رسميا بإسرائيل لكنها تجاوبت معها كثيرا لتسيير الحياة اليومية فى غزة وعقد صفقات لتبادل الأسري، وجمعت بين علاقات جيدة بكل من مصر وقطر وتركيا وإيران والسعودية.

التعديلات التى تنوى حماس إدخالها يمكن أن تكون قفزة فى الهواء فتسقط فى مستنقع خلافات داخلية وعرة، أو قفزة على الأرض تمكنها من الصمود فى مواجهة العواصف وتحقيق مزيد من المكاسب الخارجية، إذا أحسنت القراءة السياسية.

على المستوى الأول، سوف تجد قيادة الحركة الجديدة (متوقع إعلان الأسماء قريبا) نفسها أمام موقف بالغ الصعوبة، لأنها مطالبة بتبنى خطاب يحافظ على الثوابت الأساسية، للحفاظ على عناصرها الراديكالية، بدلا من التعرض لانشقاقات تؤثر على تماسكها، وهى التى نجحت طوال الفترة الماضية فى سد ثغرات كثيرة كادت تدخلها دوامة عميقة من الانقسامات.

ومطالبة أيضا بقدر وافر من الوضوح، ولن تستطيع تحمل التأويل السلبى لمواقفها، ومنهج التقية والازدواجية وتوظيف الخلافات بين القوى الإقليمية لن يكون مفيدا حاليا، وعملية الفرز التى تجرى على قدم وساق فى المنطقة من أهم نتائجها تقليص هامش المناورة التى تجيدها بعض الدوائر، من بينها حماس، وسوف يؤدى التصميم على تبنى خطاب جديد وأدوات قديمة إلى وقوعها فى فخ الاستهداف السياسى والأمني. على المستوى الثاني، تملك الحركة ما يكفى من الأساليب المطاطية التى تساعدها على تقليل الخسائر، وعلى استعداد للتنصل من جزء رئيسى من القواعد التى قامت عليها وتضمنتها الوثيقة الأولي، وتوحى بإنهاء روابطها مع الإخوان، وتستجيب لأى مخططات تمكنها من الانفراد تماما بغزة، لذلك ربما تساعد قفزة حماس الجديدة على تثبيت أقدام الحركة على الأرض، لكن يمكن أن تتسبب فى ضياع ما تبقى من قوة للقضية الفلسطينية برمتها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف