الأخبار
فرخندة حسن
المثلث الذهبي وأول خريطة جيولوجية في التاريخ
أول خريطة جيولوجية تم العثور عليها عبر التاريخ هي تلك التي رسمها المصريون القدماء علي ورق البردي منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة لمنطقة في الصحراء الشرقية نطلق عليها الآن المثلث الذهبي الذي تقوم الدولة علي تنميتها كأحد مشروعاتنا القومية. فهل يدل هذا علي أن القدماء كانوا علي علم منذ ذلك الوقت بأهمية هذه المنطقة وما تحتويه من كنوز ؟ للإجابة علي هذا السؤال علينا أن نتعرف علي هذه الخريطة وما جاء فيها.
تم اكتشاف الخريطة منذ ما يقرب من قرنين من الزمان ضمن مجموعة من الملفوفات البردية في بقايا وآثار المنطقة المعروفة باسم دير المدينة بوادي الملوك في الأقصر، وتختلف المعلومات حول تاريخ اكتشافها بالتحديد إلا أن أكثرها قبولاً لدي المهتمين بعلم المصريات أنها اكتشفت في عام 1820م بواسطة بعثة استكشاف إيطالية كان يشرف عليها برناردينو دروفيتي وهو إيطالي الأصل إلا أنه كان يشغل في ذلك الوقت، منصب قنصل فرنسا في مصر. والخريطة معروفة عالمياً باسم »بردية تورين»‬ إذ كان أول عرض لها للجمهور في متحف مدينة تورين في إيطاليا عام 1824 ومازالت معروضة فيه حتي وقتنا الحالي.
شملت الدراسة التي قام بها العالمان جيمس هاريل وماكس براون في عام 1990 وصفاً دقيقاً للبردية وتفسيرا لرموز النقوش ودلالات الألوان المختلفة التي ظهرت عليها. كما تدل النقوش التي في ظهر البردية علي أنه قد تم رسمها منذ حوالي 1150 سنة قبل الميلاد أي منذ ما يزيد علي 31 قرناً من الزمان. وتوضح الخريطة التي يبلغ طولها حوالي ستة أقدام وعرضها حوالي ست عشرة بوصة، طبوغرافياً المنطقة الممتدة علي جانبي طريق قفط القصير من جبال ووديان وكذلك الظواهر الجيولوجية وطبيعة وأنواع الصخور في هذه المنطقة التي تضم وادي الحمامات وبير الحمامات وبير أم الفواخير. والبردية كما هي معروضة الآن في متحف تورين مقسمة إلي أربعة أجزاء متلاصقة. استرعي الجزء الأول الذي يبدو في حالة جيدة انتباه دارسي علم المصريات بدرجة كبيرة إذ يوضح أماكن مناجم الذهب الموجودة في هذه المناطق، كما اختلفت ألوان الجبال في البردية بحسب اختلاف طبيعة وخواص صخورها وهو ما يدل علي أن المصريين القدماء درسوا طبيعة هذه الصخور وتعرفوا بدقة تثير الإعجاب علي خواصها وصنفوها إلي عدة أنواع وأعطوا لكل نوع منها لوناً مميزاً. فمثلاً أعطوا لوناً وردياً للصخور الجرانيتية وحددوا أماكنها بدقة في منطقة الفواخير ووادي عطا الله كما رسموا في البعض منها ما يوضح وجود عروق من المرو بنية اللون الحاملة لمعدن الذهب وهي العروق ذات الشوائب الحديدية وحددوا بكل دقة الأماكن التي كانوا يقصدونها وقاموا بتعدينها كما رسموا المدَّقات المؤدية إليها وسجلوا المسافات أيضاً، بالإضافة إلي المواقع التي كان يتم فيها جرش الصخور والتعامل معها للحصول علي الذهب نقياً خالصاً.
أعطي المصري القديم ألواناً مختلفة للصخور الأخري بحسب نوعها منها الرمادي والأسود والبني والبني المائل إلي الاحمرار والأخضر الغامق وقد تمكن العلماء من فك رموز هذه الألوان في الأبحاث الحديثة وذلك بمضاهتها علي أرض الواقع بصخور العصر البريكامبري القديم التي نعرفها الآن، كما أعطوا لممر عريض بدا في الخريطة مخترقاً أجزاءها الأربعة، عدة ألوان متداخلة تمثل مزيجا من قطع الصخور المختلفة الخواص التي كانت تجرفها مياه الأمطار والسيول من وادي عطا الله لتغطي هذا الممر الذي نعرفه الآن بوادي الحمامات. كما حددت الخريطة أماكن وجود نوع من الصخور يسمي الشيست لا يوجد إلا في وادي الحمامات وأماكن المحاجر التي كان يتم فيها قطع هذه الصخور والتي كانت ترسل إلي وادي الملوك ووادي الملكات لاستخدامها في بناء المعابد والمقابر.
تشير السجلات المتاحة كما جاء في دراسة هاريل وبراون التي تمت الإشارة إليها، أن بردية تورين قد رسمها الكاتب المصري أمنحت (Amenkhat) وكان رئيساً للكتاب في عهد رمسيس الرابع الذي كان أكثر الفراعنة اهتماماً بثروة مصر المعدنية أكثر ممن كانوا قبله وأكثر ممن جاءوا بعده إذ أرسل العديد من البعثات إلي هذه المنطقة وكان يتابع هذا النشاط باهتمام بالغ.
تحتاج بردية تورين إلي مزيد من البحث والتحليل إذ تناولتها بعض الأبحاث المحدودة كان التركيز فيها علي كونها أول خريطة جيولوجية في التاريخ إلا أن أهميتها لا تنحصر في هذا المفهوم فقط بل في تصوري أن أهميتها تتجاوز ذلك؛ فاختيار المصريون القدماء لهذه المنطقة بالذات الغنية بالكنوز الطبيعية كان بالتأكيد مبنياً علي معرفة علمية دقيقة يؤكدها المحتوي الجيولوجي السليم التي تضمنته الخريطة وهو ما يشكل دليلاً واضحاً وشاهداً علي أن بداية ونشأة علم الجيولوجيا الحديث كانت منذ ثلاثة آلاف سنة علي أيدي المصريين القدماء وعلي أرض مصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف