د/ شوقى علام
الاختيار الفقهى بين التيسير والتساهل
يقوم الشرع الشريف على مراعاة التيسير ورفع الحرج وإزالة الضرر عن المكلفين، وهذا ظاهر مبثوث فى عموم المقاصد والأدلة والأحكام الشرعيَّة
، بل يقضى الشرع على المسلمين عامة فضلا عن علمائهم بوجوب مراعاة اليسر وإزالة المشقة ورفع العنت، قال تعالي:«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» [البقرة: 185]، ويُبيِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التيسير سمة ملازمة للمسلم ومكون من مكونات شخصيته؛ فعن أَبى هريرة رضى الله عنه قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» وعن أنس رضى الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا».
والمقرر فى الشرع أن هناك أمورًا قطعية هى محل إجماع، لا يجوز الخروج عنها، وهى التى تمثل هوية المسلمين، ومساحتها محدودة محصورة، وهناك مساحة كبيرة جدا وقع فيها الاختلاف بين الأئمة والعلماء والفقهاء، والقواعد التى وضعها العلماء للتعامل مع مسائل الخلاف تتلخص فى أنه لا إنكار فى المختلف فيه وإنما فى المتفق عليه، وأنه يجوز تقليد أيٍّ من المجتهدين المعتبرين فى هذه المسائل، وأن الخروج من الخلاف مستحب.
ولا ريب أن هذه المنهجية أسست لما يسمى فى الفقه المعاصر بـ«الاختيار الفقهي»، ويعنى به: اجتهاد العالم فى المسألة المعروضة عليه سواء وافق هذا الاجتهاد مذهب إمامه الذى ينتسب إليه أو خالفه، وتأتى هذه المخالفة باختيار مذهب إمام آخر، أو بترجيح قول مخرَّج فى المذهب على المعتمد والمنصوص، وقد تكون باختيار الرأى الذى جعله علماء المذهب مرجوحًا من القولين فى المسألة، أما موافقته لإمامه فهى آتية من ناحية أنها اختيار عن بحث واستدلال لا عن تقليد ومتابعة.
ورغم وضوح هذه المنهجية إلا إنه ظهر اختزال التيسير فى التساهل عند بعضهم مع رمى علماء الأمة بالتخلف والرجعية من جهة، ورميهم من جهة أخرى بمزيد تشدد، وهذا يُشَكِّل فجوة كبيرة تنتشر من خلالها الفتن ويتحصل منها التشويش على المسلمين فى أمور دينهم وشئون دنياهم، فضلا عما يصاحبه من إطلاق صفات الضلال والابتداع والكفر بمُصْلحى الأمة ومجدديها.
إن التساهل ينشأ عن الفوضى والقصور فى البحث مع قصد التلاعب والاستهانة، وتتميز سماته بالتسرع وعدم التثبت عند إطلاق الأحكام فى الموضوعات قبل استيفاء حقها من الدراسة والنظر واستجلاب القرائن والبينات وجمع الأدلة، كما يعرف من تتبع الحيل المذمومة والتمسك بالشُّبَه دون ردها إلى المحكمات، والترخيص لمن يحب والتشدد والتغليظ على غيره. أما التيسير فهو منهج علمى مدروس بعناية من علماء الأمة، ينطلق من الدراية والإلمام بواقع الناس وحاجات العصر، ويرتكز على الرسوخ فى العلم واعتبار المقاصد وإدراك الأدلة الشرعيَّة، مع إخلاص الوجهة لله تعالى وصحة القصد فى صيانة الأمة وأفعال أفرادها عن البطلان والإلغاء، وفى الحكمة عن السلف: « إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقةٍ، فأما التشديد فيحسنه كل أحد».
إن هذه المنهجية وتلك المقاصد والموازنات يراعيها الاجتهاد المؤسسى الفقهى الذى تقوم به دار الإفتاء المصرية عبر تاريخها من خلال الفتاوى الصادرة عنها فى كل الأحكام الشرعيَّة، فمثلا: ترى دار الإفتاء أنه لا مانع شرعًا من المبادرة بشراء صكوك هدى التمتع مِن المدينة المنورة؛ استغلالا للوقت وسهولة الوصول للجهات التى تؤدى خدمة الصكوك، لأن غاية الصك هى توكيل الغير فى الذبح، والذبح للمتمتع يكون عقب التحلل مِن العمرة، ويجوز شرعًا تقدم التوكيل بالذبح على الإحرام بعمرة التمتع؛ فإنه إذا جاز تقدُّم التوكيل بالحج عن الغير على الإحرام، جاز تقدم التوكيل عن بعض أعمال الحج كالذبح، فما جاز للكل جاز للبعض بداهة. فالاختيار الفقهى الصحيح هو المبنى على التيسير الذى يراعيه الشرع الشريف منهجية وسطية منضبطة بين التشدد والجمود وبين التساهل المفضى إلى التلاعب.