المصرى اليوم
جيهان فوزى
وستبقى «غزة» عصية على الانكسار
وكأن غزة ينقصها هم آخر يضاف إلى هموم طاحنة تحاصرها وتخنق أنفاسها، كأنها بحاجة لمن يذكرها بأنها ذلك المربع الفقير الصغير المعزول في أطراف الوطن بعيدا عن عطاء وخير الأرض التي أنجبت أعظم وأطهر مقاومة ضد الاحتلال عرفها التاريخ، كأن قدر غزة المعاناة والجحود والجلد لتتلظى بنار الحروب وتقتلها أسلحة اسرائيل التي تجربها على أبنائها في كل حرب، كأن غزة قربان التضحية لباقى الوطن , قدرها أن تكون كبش الفداء دائما المضحى بالغالى والنفيس , ألا يكفى غزة حصارها المرير منذ أكثر من عشر سنوات؟ ألا يكفى غزة عزلتها وفقرها وضعفها وانقسامها وتجردها من آدميتها بفعل حروب العار والدمار الاسرائيلية؟ ألا يكفيها جوعها واظلامها وقهرها وتسلل ثقافة الانتحار إلى أبنائها يأسا وكمدا من حياة لا أفق فيها ولا سقف لوقف معاناتها؟ ألا يكفى تراجع كرامتها بسبب الحاجة وهى التي طالما كانت شامخة عفية سطرت بطولات يعجز عن تصديقها الخيال؟ صمدت وقاومت واستبسلت وضحت وصبرت دون أن تشتكى أو يتعالى صراخها؟ .
علقت سلطة رام الله المشانق لموظفى غزة، وليس أفظع على المرء من محاربته في رزقه الشحيح وتهديد حياته التي لم تعد ترقى لحياة البشر، عقدت حكومة رامى الحمدالله العزم على الانتقام من موظفى غزة فقط، ونفذت فيهم مجزرة جماعية لم تبق ولم تذر فقررت خفض رواتبهم التي هي بالكاد تكفى احتياجاتهم الضرورية وخصمت 30% منها , قرار استثنى منه موظفى الضفة الغربية بالمخالفة للقانون , قرار اختص غزة لغرض في نفس يعقوب! لم يكن رئيس الحكومة رامى الحمدالله ليجرؤ على اتخاذ قرار كهذا دون إعطاء الضوء الأخضر من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ؟! قرار جاء رضوخا للضغوطات الاسرائيلية والامريكية والاوروبية وهى ضغوط لا تمس لقمة العيش لعدد كبير من موظفى غزة الذين يصل عددهم نحو 60 ألف موظف فحسب , لكنها تمس الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطينى لتأثيرها المباشر على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة , اجراءات تعسفية تفاقم من صعوبة حياة المواطنيين التي لم تعد تحتمل أعباءا أخرى تضاف إلى رصيد مأساتهم واختبار صبرهم .
«حارب الدولة بمواطنيها» شعار أعلنته اسرائيل وحليفها الولايات المتحدة الامريكية، للفتك بأى وسيلة تمكن الشعب الفلسطينى من الصمود والمقاومة، ويبدو أن الرئيس أبومازن ينفذ هذا المبدأ بإخلاص منقطع النظير، يمارس القهر والتعسف بحق شعبه وكل من يعارضه بالوكالة , جريمة تمهد للانفصال الجدى والمبرر بين غزة والضفة الغربية وترسخ لانقسام أبدى ودائم ليترك قطاع غزة يئن وحده يعانى الفقر والحاجة والمهانة , لم يخرج صوت مسؤول شجاع يوضح أبعاد تلك المذبحة التي نفذتها حكومة رام الله بحق موظفى غزة , ومن خرج على استحياء برر تلك الجريمة البشعة بأن موظفى غزة ليسوا على رأس عملهم وتجاهلوا أن التزامهم بيوتهم جاء التزاما منهم بقرار الشرعية وقرار الحكومة مكرهين وليسوا مخيرين , وجلسوا في بيوتهم بعد الانقسام البغيض الذي مزق كرامتهم قبل وحدتهم وكل من لم يلتزم بالقرار كان يتم فصله من العمل ويتخذ ضده عقوبات مجحفة بحجة تعاونه مع الانقلابيين أي (حركة حماس التي نفذت الانقلاب) , أما إن كان المبرر اتخاذ خطوات تقشفية بسبب الأزمة المالية التي تعانى منها السلطة الفلسطينية فكان الأولى أن ينطبق ذلك على موظفى الضفة الغربية أيضا وهو الذي لم يحدث واختصر الأمر على موظفى القطاع فقط ؟!.
منذ نشأتها تمارس اسرائيل سياسة «فرق تسد»، كان على رأس أولوياتها تمزيق وحدة الشعب الفلسطينى وضرب النسيج المجتمعى لوطن واحد وجرح واحد بالتفريق في المعاملة بين أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة، زرعت بينهم نوازع التفرقة والتمييز هذا «غزاوى» وذاك «ضفاوى»، تفرقة مقيتة حاولت غرسها بكل إمكاناتها , غزة المحملة بأعباء الفقر وقلة الموارد والاعتماد الكلى على سوق العمل داخل اسرائيل , أمعنت دولة الاحتلال باهمالها ودأبت على قهرها وتعمد حرمانها من المرافق الحيوية والخدمات العامة والامتناع عن تطوير بنيتها التحتية لسنوات طويلة بهدف كسر إرادتها وتدمير مقومات الحياة فيها , فهى الخنجر المسلط على أمنها والصداع المزمن لاستقرارها خرجت من رحمها انتفاضة هزت العالم بصمودها واستبسالها وأثارت فضوله وإعجابه وانتباهه لتلك البقعة الصغيرة المنسية المكتظة بالسكان , الأمر الذي دفع رئيس وزرائها اسحق رابين التصريح بعبارته الشهيرة عام 1992 قائلا: «أتمنى أن استيقظ يوما من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر», لكن البحر لم يبتلع غزة وظلت شوكة في حلق الاحتلال ومصدر قلقه وإزعاجه , في الوقت الذي كانت ترفل فيه الضفة الغربية بظروف معيشية أفضل نظرا لارتباطها التاريخى بالأردن , وبينما تطل غزة على صحراء القهر والفقر والاهمال والحاجة , إلا أنها أفشلت مخطط اسرائيل في إضعافها أو إخضاعها وعوضا عن ذلك أصبحت قنبلة موقوتة وقودها المقاومة والتحدى والصمود في وجه الاحتلال .
فهل يحاول الرئيس «أبومازن» إعادة انتاج ما عجز عنه تحقيقه الاحتلال الاسرائيلى ؟! هل يريد تعزيز الانقسام وإضعاف النسيج المجتمعى لكسر شوكة غزة؟ يتباكى ليل نهار على الإنقسام الذي عصف بوحدة الوطن ولم يكلف خاطره معالجة أسبابه لنزع فتيل الفتنة، وفى الوقت ذاته يمارس القمع والاضطهاد لترسيخ ثقافة الانقسام والتفرقة لجر غزة إلى إنفصال إجبارى دون إختيار من أهلها الذين اكتوا بنار الظلم والتمييز والتجاهل وربما النبذ أيضا! ماذا يقصد عباس بمذبحة الرواتب؟ وهو يعلم علم اليقين أن سكان القطاع باتوا بلا مأوى بعد الدمار الذي خلفته ثلاثة حروب ضارية ولم يٌعدْ إعماره، ذاقوا خلالها أهوال ما زالت آثارها ماثلة في أذهانهم حتى الآن؟ محاصرون محبطون يائسون ليس لديهم موارد ولا طاقة أمل بعد إحجام الدول المانحة عن مساعدتهم لأنهم يعاقبون حماس فيهم، بات قطاع غزة منبوذا معزولا يدفع ثمن حكم حماس ويعانى مرارة الانقسام والعزلة والحصار والفاقة , ليأتى رئيس سلطتهم متوجا معاناتهم القاسية بقرار جائر ظالم للتنصل من مسؤوليته , والهروب من مشاكله وأزماته التي يبدو أنها أصبحت عبئا على الرئيس محمود عباس شخصيا , وفى لحظة استثنائية قرر الخلاص من هذا العبئ وتحقيق أمنية رابين بإلقاءه في بحر العوز والحاجة وامتهان الكرامة!!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف