كثير من المؤشرات تُنبئ بتحول إيجابى فى العلاقات المصرية الأمريكية فى ظل الإدارة الجديدة لدونالد ترامب, فزيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى لواشنطن هى الأولى لرئيس مصرى بعد انقطاع دام لما يقرب من 12 عاما, شهدت فيها تلك العلاقات أزمات متعددة, قبلها كان اللقاء المميز بين الرئيسين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة, وعلى مدى العامين الماضيين توالت على القاهرة زيارات الوفود الممثلة للكونجرس والمنظمات اليهودية الأمريكية النافذة فى دوائر صناعة القرار.
لكن الأهم من هذه المظاهر, أن ترامب جاء بـ «أجندة» سياسية مغايره لتلك التى اتبعها سلفه أوباما, ليس فقط فيما يتعلق بالعلاقة مع مصر, وإنما على مستوى الإستراتيجية الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط ككل بما تتضمنه من إعادة ترتيب أوتبديل للتحالفات الاقليمية. إذ لم تعد قضايا الشأن الداخلى مثل مسألة الديمقراطية وحقوق الانسان وما يرتبط بها من ممارسة ضغوط على الدول, تحتل أولوية أو تحظى باهتمام الإدارة الحالية, وقد كانت سببا فى توتر العلاقة بين القاهرة وواشنطن, كذلك فإن الموقف السلبى من نظام 30 يونيو مقابل الدعم الأمريكى لجماعة الإخوان قد انتهى، لذلك تنتظر مصر أن يُترجم هذا التغيير الظاهر إلى مواقف وسياسات عملية تدعمه, كأن تُرفع القيود على المساعدات العسكرية التى سبق فرضها أو تُخصص مساعدات استثنائية لسيناء وربما أيضا تعديل بعض البنود الأمنية فى اتفاقية كامب ديفيد التى قسمتها إلى ثلاث مناطق (أ) و(ب) و(ج) تبعا لدرجة السيادة الأمنية عليها بين مصر واسرائيل. إضافة إلى زيادة حجم التبادل التجارى والاستثمارات الأمريكية فى مصر, أما من الناحية السياسية, فأن يتم إدراج الاخوان ضمن قوائم جماعات الارهاب التى تضعها الولايات المتحدة والتى سبق أن ضمّنتها حركة حماس وهى إحدى أفرع الجماعة المنتشرة فى المنطقة.
إذا كانت هذه الجوانب تتعلق بالشق الثنائى فى العلاقات, فالمتوقع أن يكون هناك تقارب وتعاون يتجاوز هذه الحدود ليمتد إلى مناطق الصراعات الاقليمية, حيث تعتمد استراتيجية ترامب المعلنة على إحياء محور مصر/السعودية/الأردن, كممثل لقوى الاعتدال السنية فى المنطقة, فى وضع شبيه لما كان سائدا فى زمن إدارة بوش الأب إبان حرب الخليج الثانية وتوقيع اتفاقيات أوسلو الفلسطينية - الإسرائيلية فى النصف الأول من التسعينيات, وأن المسئولية الملقاة على هذا المحور ستتسع من محاربة إرهاب داعش إلى مواجهة إيران التى وصفها الرئيس الأمريكى بأنها «مصدر للإرهاب العالمى», مع ملاحظة أن هذا البعد أضيف لاحقا تحت الضغط الاسرائيلى على إدارته. أيا ما كان الأمر فهناك ملاحظات أساسية يجب أن تؤخذ فى الاعتبار إذا ما وضعت تلك الإستراتيجية موضع التنفيذ.
أولا, تحدث ترامب كثيرا عن روسيا كشريك مهم فى تسوية القضايا الاقليمية خاصة ما يتعلق بالأزمة السورية, وهى فاعل دولى رئيسى فيها وقواتها موجودة على الأرض وتحارب هناك دفاعا عن مصالحها الحيوية التى اقتضت اصطفافها مع نظام بشار, وإيران حليف أساسى لها فى هذا الملف وتشارك بقوة فى القتال أيضا دفاعا عن نفس الأهداف أى مصالحها الاقليمية ودعم النظام وكلاهما منغمسان فى الحرب على داعش, فكيف سيتم التوفيق بين الرغبتين الأمريكيتين, محاربة إيران من جهة وإشراك روسيا فى حل القضايا الاقليمية من جهة أخرى؟ لا شك أن هذا يُعد تناقضا غير مفهوم؟ وفى المقابل هل يمكن أن تتخلى إيران عن مشروعها بسهولة أم ستلجأ إلى تشكيل حلف مضاد برعاية روسية؟ وهل فى هذه الحالة ستخوض دول «الاعتدال السنى» حربا مفتوحة مع طهران بما قد تقتضيه من تدخلات عسكرية؟ والأهم هل تقف جميعها على نفس المسافة منها وتعتبرها «عدوها» الأول أو الرئيسى فى الوقت الراهن؟.
ثانيا, إن افتراض تطابق الأهداف والمصالح القومية لقوى «الاعتدال السنى» تجاه جميع الصراعات وأطراف النزاع الداخلة فيها فى مختلف دول المنطقة, يحمل نوعا من التبسيط لا يتفق وواقع الأمور, ولا يمكن أن يتم بشكل آلى, فوجهة نظر مصر تجاه التسوية السياسية للأزمة السورية تختلف عن رؤية السعودية لها، كما أن طبيعة علاقتهما مع روسيا هى أيضا مختلفة, كذلك الحال بالنسبة لليمن وليبيا وغيرهما من حالات.
ثالثا, إن تشعب الأجندة الأمريكية الموزعة ما بين أولويتين, محاربة داعش وايران, يعنى عمليا مواجهة جميع التنظيمات المتطرفة على الجانبين السنى والشيعى فى آن واحد, فمن الناحية الأولى هناك إلى جانب داعش, القاعدة وجبهة النصرة وأنصار بيت المقدس وجماعة الاخوان بأجنحتها المسلحة, ومن الناحية الثانية, الحرس الثورى (وهو جزء أصيل من النظام الايرانى) والميليشيات التابعة له, وحزب الله اللبنانى والحشد الشعبى وفيلق القدس (المسيطران على الساحتين السورية والعراقية) وغيرها من تنظيمات, والمعضلة أن كل طرف هو بالفعل موظف ضد الآخر فى حروب بالوكالة لصالح قوى اقليمية أو دولية أكبر, فهل يمكن إدراج الجميع على قوائم الارهاب دفعة واحدة أم أن هذا التشعب سينتهى إلى «اللافعل» أو اللا شىء؟.
رابعا, فيما يتعلق بجماعة الإخوان تحديدا باعتبارها القضية الأهم والأكثر إلحاحا لمصر, هل ستكون أمريكا جادة فى إدراجها على قوائم الارهاب أم أن عوامل أخرى ستتحكم فى قرارها كعلاقاتها بتركيا وقطر الداعمتين صراحة لها أو بغيرهما من الدول التى تشكل فيها الجماعة رقما مهما فى معادلة الحكم (كتونس والأردن) أو فى الصراع على السلطة والتسويات المنتظرة, كما هو الحال فى ليبيا مثلا.
خامسا, وعلى الرغم من أن محور «الاعتدال» يبدو مرتبطا بإحياء عملية السلام فإن الإدارة الأمريكية الجديدة ليست لديها رؤية محددة لاستئنافها, سواء فيما يتعلق بحل الدولتين الذى طرحته إدارة بوش الابن أو قضية الاستيطان, فلم تكن هناك تصريحات واضحة إلا حول احتمالات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس!.
باختصار وفى سؤال واحد, هل إستراتيجية ترامب غير متماسكة أم متناقضة أم هى مجرد تعبير عن أفكار مازالت فى حاجة إلى الاختبار؟.