الأهرام
نيفين مسعد
تجدد حديث المناطق الآمنة
تولي دونالد ترامب السلطة رسميا يوم ٢٠ يناير 2017 وبعد أقل من أسبوع أعرب عن نيته في إنشاء مناطق آمنة داخل سوريا « لحماية الأشخاص الهاربين من العنف « ، ثم عاد في ١٨ فبراير الماضي ليؤكد المعني نفسه مع إضافة نقطة خاصة بتكاليف إقامة تلك المناطق حيث أوضح أن دول الخليج هي التي ستتحملها ، وفيما بين هذين التاريخين نُسِب إلي موقع ديبكا الإسرائيلي نشر تقرير مؤداه أن ثمة اتفاقا أُبرم بين الرئيسين الأمريكي والروسي حول تقاسم النفوذ في سوريا من خلال سياسة المناطق الآمنة بحيث تتحكم الولايات المتحدة في منطقتين ، الأولي تمتد من شرق الفرات حتي الحدود العراقية وتدخل فيها الأجزاء التي يسيطر عليها الأكراد والثانية تتاخم حدود سوريا مع كل من الأردن وإسرائيل ، والثالثة تقع غرب نهر الفرات وتسيطر عليها روسيا، أما الرابعة فإنها تخضع لتركيا وتقع بمحاذاة حدودها مع سوريا ، وتردد أن هذا الاتفاق يمثل تطويرا لاتفاق آخر أبرم بين أوباما وبوتين عام ٢٠١٥ . وفي اجتماع وزير الخارجية الأمريكية مع ممثلي ٦٨ دولة من أعضاء التحالف الدولي ضد الإرهاب الشهر الماضي ذكر أن بلاده عازمة علي إنشاء مناطق آمنة داخل سوريا عبر اتفاقيات لوقف إطلاق النار مما يسمح بعودة النازحين إلي ديارهم

وهكذا فإنه في كل تلك التصريحات نحن أمام مساع أمريكية لتكوين مناطق آمنة في سوريا هدفها الظاهر هو الحيلولة دون تدفق المهاجرين إلي الدول الغربية - وموقف ترامب من موضوع الهجرة والمهاجرين معروف ناهيكم عن أن يأتي المهاجرون من معاقل تمركز القاعدة وداعش - لكن خلف هذا الهدف الظاهر توجد سلة أخري من الأهداف نجد فيها موازنة التمدد الروسي في الشرق الأوسط وتأمين إسرائيل عبر تجزئة سوريا . وبالطبع من الممكن أن نناقش هل سوريا الموحدة أشد خطرا علي إسرائيل أم سوريا المفتتة خاصة أن هذا التفتيت سيكون علي أسس مذهبية وعرقية ، لكن المؤكد أن سوريا الضعيفة مطلوبة .

هدأ سيل التصريحات الملحة علي فكرة المناطق الآمنة بعض الوقت ثم عاد ليتجدد مع زيارة وزير الخارجية الأمريكية لأنقرة نهاية الشهر الماضي حيث تطرقت مباحثاته مع الرئيس التركي لخيارات إنشاء المناطق الآمنة ، وتركيا هي أول من طالب بتلك المناطق في مرحلة مبكرة من الصراع في سوريا، ثم عندما وقعت مجزرة المدنيين في خان شيخون رفع الرئيس الأمريكي سقف تهديداته للنظام السوري ، وبعد أن كان وزير خارجيته صرح أن مصير الأسد يحسمه الشعب السوري علي المدي البعيد هاهو ترامب يقول إن كل الخيارات مفتوحة ، وهاهي السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة تحذر من أن فشل مجلس الأمن في اتخاذ إجراءات لمنع تكرار الجرائم في سوريا «سيجبرنا علي أن نتصرف منفردين» ، وهذا التهديد الصريح يشمل مروحة واسعة من الإجراءات .

علي مدى ربع القرن الأخير كانت للدول العربية ثلاث تجارب مع المناطق الآمنة والحظر الجوي ، أخذا في الاعتبار أن هناك علاقة وثيقة بين نوعي المناطق إذ لن يتحقق الأمن دون توفير غطاء جوي . اثنتان من هذه التجارب الثلاث ارتبطتا بقرارين أمميين واستهدفتا ليبيا بكامل أراضيها ، وفِي هذا السياق صدر قرار مجلس الأمن رقم ٧٤٨ في ٣١ مارس ١٩٩٢ اتصالا بقضية لوكيربي وقضي في النقطة الرابعة منه بعدم إقلاع أي طائرة من ليبيا أو هبوطها فيها إلا لوجود حاجة إنسانية وبعد موافقة لجنة منشأة لهذا الغرض ، ثم صدر قرار مجلس الأمن رقم ١٩٧٣في ١٧ مارس ٢٠١١ ارتباطا بحماية المدنيين من القصف الجوي أثناء الثورة وورد في النقطة الأولي فرض حظر جوي شامل فوق أراضي ليبيا . أما التجربة الثالثة فارتبطت بتداعيات تحرير الكويت واستهدفت بعض أجزاء من الأراضي العراقية ، ولقد تمت هذه التجربة دون قرار أممي حيث انطلقت قوات أمريكية - فرنسية - بريطانية من قاعدة إنجيرليك التركية لفرض منطقتين آمنتين شمال خط عرض ٣٦ وجنوب خط عرض ٣٢ ( توسعت لاحقا لخط عرض ٣٣)، وقد جرت محاولة لإلصاق هذه البلطجة الدولية بقرار مجلس الأمن رقم ٦٨٨ في ٥ أبريل ١٩٩١ إلا أن القرار ليس به حرف واحد عن إنشاء مناطق آمنة .

‎إذن أمام الولايات المتحدة خياران فيما لو قررت المضي قدما وتكوين مناطق آمنة في سوريا ، الخيار الأول هو استصدار قرار من مجلس الأمن بحيث تتولي قوات دولية (وربما الحلف السني المزعوم) تنفيذه ، وهنا سوف تواجه الولايات المتحدة بالڤيتو الروسي والصيني اللهم إلا إذا كان هناك تنسيق مع روسيا بالذات كما ذكر موقع ديبكا، لكن هل بذلت روسيا ما بذلت لتوافق علي أن تستولي الولايات المتحدة علي ربع الكعكة السورية؟ وما هو مصير الجيب السوري / الروسي في منبچ الواقعة حتي تاريخ كتابة هذا المقال داخل الحصة الأمريكية من المناطق الآمنة ؟ وإذا قبلت دول الخليج تمويل منطقة آمنة للسنة شرق الفرات فهل ستقبل تمويل منطقة آمنة أو منطقة عازلة بمعني أصح بين سوريا وإسرائيل ؟ ثم ما هو موقف إيران من أي اتفاق أمريكي - روسي وهي رغم توافقها مع روسيا تختلف معها كما اتضح من قضية الالتزام بالهدنة المنبثقة عن الآستانة مثلا ؟ وإذا أضفنا متغير الأكراد فسوف يزيد الأمر تعقيدا فكل اقتراب منهم فيه ابتعاد عن تركيا وهذا يضع سقفا لمستقبلهم داخل المنطقة الآمنة سيما وتركيا تصرح بأن قواتها باقية في سوريا حتي بعد انتهاء درع الفرات، وبالتالي فإن فيدرالية كردية في سوريا أمر بعيد المنال .

‎الخيار الثاني هو فرض هذه المناطق بالقوة وقد لوح ترامب وسفيرته في الأمم بشئ من ذلك وهذا يعني صداما عسكريا بين الولايات المتحدة وروسيا علي الأرض السورية . لقد صرح الرئيس الأمريكي بأنه يسعي لإقامة قاعدة عسكرية في الرقة للتقليل من الاعتماد علي قاعدة إنجيرليك مع الاستعداد لتحويل الرقة إلي « لاس ڤيجاس الشرق الأوسط « ! وبغض النظر عن أن أيا من الدول التي احتلتها الولايات المتحدة لم تعرف نموذج لاس ڤيجاس بل كانت مسرحا لدمار شامل فإن السؤال هو كيف ستؤسس هذه القاعدة العسكرية ومن سيسمح بذلك ؟ وهل ستمكن الظروف الأوروبية من اصطفاف بريطانيا وفرنسا مع الولايات المتحدة كما حدث عام ١٩٩١؟ .

‎من السهل التهديد بإقامة المناطق الآمنة في سوريا لكن التنفيذ شديد التعقيد بقدر ما هو معقد الواقع السوري ذاته ، وكمثال أخير فإنه في الوقت الذي يستعير فيه ترامب مصطلح « الهلال الشيعي « -الذي استخدمه الملك عبد الله لأول مرة عام ٢٠٠٦ -ويقول إنه يسعي لإضعافه فإنه عمليا يحارب مع عناصر هذا الهلال الشيعي في سوريا وأيضا في العراق ! عيوننا مفتوحة علي تطورات الساحة السورية فكلما اقترب موعد حسم معركة الرقة دنت لحظة الخيارات الصعبة علي الجميع ، فإن لم نكن طرفا أصيلا في التحكم في تلك الخيارات فعلي الأقل ليتنا لا نحبذ تكرار خطيئة العراق في سوريا ولا نرحب بمناطق سورية « غير آمنة « .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف