أشرف الصباغ
الشعيرات بين المعالف الإعلامية الروسية والوقاحة الأمريكية
أكملت الولايات المتحدة مساراتها العسكرية الوقحة، وفقًا لتصوراتها عن كيفية ممارسة نفوذها والآليات التي تضمن بها مصالحها، كما هو وارد ضمن عقيدتها العسكرية والأمنية. ومن الجهة الأخرى، مارست روسيا أعتى أنواع التضليل الإعلامي، وأسوأ آليات البروباجندا والدعاية الفجة، وبنت كل تصوراتها ليس بالضبط على مجريات الواقع، وإنما وفقًا لما يدور في ذهنها، ووفقًا لما تتمناه بصرف النظر عن الواقع. أما نظام الأسد فهو لفترة قريبة كان يبتدع كل أنواع الدعاية الفجة والبروباجندا التي لم تحدث حتى إبان أسوأ الهزائم والانتكاسات، فكانت الآلة الدعائية البعثية تتحدث عن انتصارات وهمية. بل ومن أجل التأكيد على جبهة الممانعة والصمود والتصدي التي تضم الأسد ونظام الملالي وميليشيات حزب الله وعصابات البعث المخابراتية، راحت المعالف الإعلامية الروسية والأسدية تتحدث عن مواجهات غير عادية يمكن أن تنشب بين قوات الأسد المنتصرة وإسرائيل. وذهب سفير الأسد في موسكو إلى أن دمشق تحذر من أنها سوف تبدأ بالرد على إسرائيل ومواجهتها، وإيقافها عن حدها. وبالطبع لا يكره ولا يرفض أحد أن ينفذ الأسد المنتصر هذه الوعود الجبارة. ولكن الجميع يعرف جيدًا أنها مجرد ورقة لشرعنة نظامه، ومنحه "نَفَسًا" جيدًا إضافيًّا، وتسويق نفسه بقناع جديد لتمديد فترة إقامته رئيسًا لبعض أحياء دمشق. لقد فاجأتنا موسكو بمعالفها الإعلامية بأنها قاب قوسين أو أدنى من تعاون عسكري مع واشنطن، وأن إدارة ترامب جيدة ورائعة، وقادرة على تطبيع العلاقات مع الكرملين، وأنها تنوي فعلاً أن تقوم بذلك، بينما تتحدث في حالات أخرى عن أن ترامب جيد ويحب روسيا وبوتين، ولكن هناك بعض الأشرار الذين يضحكون عليه، أو يضغطون عليه، أو يخدعونه، وبالتالي، فالأمور صعبة ومعقدة. "المعلف" أو "المعالف"، مصطلح روسي جيد ورائع ومعبر للغاية، عن "الدكاكين" و"اللوبيات" و"العصابات" و"الميليشيات" في وسائل الإعلام وفي المؤسسات الحكومية وفي الأجهزة الأمنية. وبالتالي، عندما نتحدث عن "معالف" إعلامية روسية، فهي معالف تضم وسائل إعلام الأسد في داخل سوريا وخارجها. هكذا خدعت روسيا نفسها، وخدعت الرأي العام الداخلي والخارجي. وهكذا وجد الأسد فترة إضافية للبقاء، بصرف النظر عن أكثر من عشرة ملايين سوري بين لاجئ ومشرد ونازح ومهاجر، ناهيك بأعداد القتلى والمصابين والمتضررين. الولايات المتحدة لم تغير سياساتها، أو بالأحرى الخطوط العامة والعريضة والرئيسية لسياساتها، بصرف النظر عن الحزب الذي وصل إلى السلطة. ومن الواضح أنها لا تنوي ذلك أصلاً. كل ما هنالك هو أن موسكو تحب أن تخدع نفسها، وتطلق المعالف الإعلامية والسياسية في حروب إعلامية أكثر منها واقعية، بينما الولايات المتحدة تمارس سياساتها الوقحة الموجودة في عقيدتها العسكرية والأمنية. لم يكن صعبًا وضع قراءات موضوعية ومنهجية لما سيحدث في شهر أبريل الحالي تحديدًا. وبعيدًا عن التصورات والقراءات الخاطئة والتآمرية والتضليلية، فقد كان من الواضح أن الولايات المتحدة التي نشطت عسكريًّا وأمنيًّا في شهر مارس في سوريا، سوف تقوم بتحولات جذرية سياسيًّا وميدانيًّا. ولا علاقة لنا هنا بالقراءات الروسية الخاطئة وغير الدقيقة والتضليلية، ولا شأن لنا بخبث نظام الأسد الذي على استعداد للتضحية بآخر سوري من أجل بقاء الأسد وعصابته في السلطة.
المسألة هنا تتعلق بعلاقات روسيا وتركيا التي ذهبت في اتجاه آخر تمامًا، ودخول إسرائيل على خط الأزمة السورية بدرجة أكبر مما كانت عليه في السابق، والتصريحات المباشرة والواضحة من جانب إدارة ترامب بشأن العلاقات مع روسيا، وبشأن التعاون معها من عدمه، وفرض العقوبات تارة وتوسيعها تارة أخرى ضد روسيا وإيران وحزب الله ونظام الأسد. كل هذه المؤشرات كان من الطبيعي أن تقود إلى ضربة مثل ضربة قاعدة الشعيرات. الضربة الأمريكية تشكِّل رسالة مهمة لكل من روسيا والأسد وإيران، وهي رسالة تطمين لتركيا ودول الخليج. وكون روسيا أعلنت تجميدها للتعاون العسكري مع الولايات المتحدة في الأجواء السورية، فهذا أمر مثير للضحك والسخرية، لأنه لم يكن هناك أي تعاون عسكري بين الطرفين، كان هناك فقط تنسيق عسكري لمنع وقوع حوادث في أثناء تنفيذ العمليات العسكرية من هذا الطرف أو ذاك. وبالتالي، فقد أعلمت واشنطن حلفاءها واستبعدت موسكو. وما حدث بالضبط هو أن القوات الأمريكية، أو قوات التحالف، أعلمت القوات الروسية ليس بالضربة، وإنما بأنها ستقوم بنشاطات محددة، وفي حدود "التنسيق" وليس أكثر أو أبعد من ذلك، وهذا أمر طبيعي. المواجهات الآن أكثر وضوحًا ومباشرةً وقُرْبًا من ذي قبل. موسكو وواشنطن، وبحجة مكافحة الإرهاب في سوريا، تقومان بمواجهة مباشرة تقريبًا. وقوات الطرفين يرى بعضها بعضًا في "منبج" وفي أماكن أخرى، حتى ولو كانت هذه القوات ترتدي الزي "المدني". والحديث الآن يدور حول مكافحة الإرهاب، ولكنه في جوهره يتواصل حول ترسيم المصالح ومناطق النفوذ، وما يجب أن يكون عليه مستقبل سوريا. وفي الحقيقة، فالولايات المتحدة لا تزال ترحب بالوجود العسكري الروسي في سوريا، ولا تمانع أو تنتقد أي نشاطات عسكرية لروسيا في سوريا. وعلى روسيا أن تكمل مشوارها الذي بدأته منذ أكثر من عامين. الولايات المتحدة تقوم بما تمليه عليها مصالحها، بصرف النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع ذلك. بالضبط مثل بشار الأسد الذي يضحي بسوريا والسوريين من أجل البقاء في السلطة و"الحفاظ" على سوريا، و"مواجهة" إسرائيل، و"تحرير" القدس، و"تطوير" الدول العربية المحيطة على الطريقة السورية. لا شك أن حديثًا سيدور بين موسكو وواشنطن، ولكن عندما تقرر الأخيرة ذلك، وترى أن من مصلحتها إقامة حوار، أو تعاون محدود، أو تنسيق بدرجات معينة. ولا شك أيضًا أن روسيا تعمل لمصالحها الوطنية والقومية، بعيدًا عن الشعارات الفارغة والطنطنة السياسية العتيقة. وهي تنتظر هذا الحوار بفارغ الصبر وفي أي صيغة. ولا أحد يعرف بالضبط ما يمكن أن يقدمه الروس للأمريكيين، ولكن يجب أن لا نستبعد أن تزداد مواقف الروس تشددًا وتطرفًا، لأنها تشعر بخيبة الأمل، وتشعر بأن الأرض تنسحب من تحت أقدامها، وعليها أن تبرر قراراتها ووجودها العسكري في سوريا، وأن تقنع العالم بأن الأسد لم يخدعها ويخفي عنها أي أسلحة كيميائية، فهي في نهاية المطاف كانت الضامن أمام العالم كله لنظام الأسد في أثناء تخلصه من أسلحته الكيميائية. ولا يمكن أن نستبعد أن الولايات المتحدة وحلفاءها يستخدمون ورقة الكيماوي مثلما حدث مع نظام صدام حسين. كل شيء الآن متوقَّع في ظل معالف إعلامية وتضليل سياسي، ووقاحة عسكرية، ونهم أسدي - بعثي للسلطة من أجل تحرير القدس وتخليص العالم من الإرهاب، وتدمير إسرائيل، ووضع مقدمات التحديث والتطور للأمة العربية، وأنه بدون الأسد، فسوف يستولي الإرهاب ليس فقط على سوريا، بل وعلى العالم كله.