المساء
محمد جبريل
الواقعية الروحية
إن ما تنبض به حكايات جداتنا من الغرائبية والعجائبية تبين عن مغايرة في حكايات الآخرين. إنها تنطلق في الخيال إلي آفاق مطلقة. أما الحكايات الأخري فإن آفاقها محدودة. يتحرك في محدوديتها بينوكيو وسندريللا وذات الرداء الأحمر وغيرها ذلك هو سر الافتتان العجيب بالتراث الشعبي العربي. كما في ألف ليلة وليلة علي سبيل المثال. ما يحرص أدباء أمريكا اللاتينية علي تأكيده في إشاراتهم إلي البدايات. أن ألف ليلة وليلة كانت دليلهم إلي عالم الفن الجميل: البساط السحري. البللورة المسحورة. طائر الرخ. جزيرة واق الواق. افتح يا سمسم. وغيرها من الصور التي تصدر عن مخيلة لا حدود لانطلاقاتها.
والحق إنني حين أتحدث عن الخيال. فأنا لا أعني بالخيال ما يحتفي به السيرياليون.. إنما أعني الخيال الفني في كل مستوياته. وإذا كانت الكتابة لم تدفع بالخيال أبداً إلي حدوده القصوي ــ علي حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ــ فإن الواقعية السحرية ــ والسيريالية كذلك ــ تفجر الخيال إلي أقصي مداه. تأذن بتحرر اللاوعي إطلاقاً من الرقابة التي قد يمارسها العقل. وهذا ما بين فيما يمكن تسميته بالواقعية الصوفية.
الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة في اللاوعي. بحيث تظهر عالماً ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخري.. الأسطورة والفنانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعي وتشكل جزءاً في نسيجه.
أوافق علي الرأي بأن الواقعية السحرية مجرد مسمي لاتيني أمريكي لظاهرة عالمية قديمة. الواقعية السحرية ــ أداتها قوة الخيال ــ تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعاش يقول ماريو بارجاس يوسا: "لقد بدأت القصة تتحرر من مخيلتها. من اهتمامها فقط بكل ما هو أمريكي لاتيني. لقد تحررت بالفعل من هذه التبعية فنراها تتخلي عن مهمتها كخادمة في محراب الواقع المعيشي. وأصبحت ــ في الوقت الراهن ــ تسلط أضواءها علي الواقع لتستمد منه موضوعات معينة لعرضها علي الرأي العام. وبذلك مهدت تغيير الوضع القائم".
ظاهرة الواقعية السحرية موجودة في الأساطير والملاحم والحكايات العربية. منذ أسطورة إيزيس. وقصة الأخوين. تواصلا مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية: الهلالية وعنترة وبيبرس وحي بن يقظان ورسالة الغفران والزوابع والتوابع وبركات الأولياء ومكاشفاتهم. وإذا كان كل شيء في أمريكا اللاتينية ــ كما يقول ماركيث ــ ممكناً وواقعياً. فإن المعني نفسه يصدق علي الحياة في بلادنا. الوجدان المصري ــ والعربي بعامة ــ يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية. مهما مالت ــ موضوعياً ــ إلي الخرافة. إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أموراً حقيقية. ويجب تصديقها. وممارسة سلوكيات حياتنا في ضوء ذلك الاعتبار. الإنسان العربي يمارس ما قد يبدو خرافة. دون أن يضعه في إطار معرفي محدد. بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب. هم الذين يعرفون معني الواقعية السحرية. بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل. أو ما أميل إلي تسميته ــ أكرر ــ الواقعية الروحية!
قد تبدي توصيفاً لمعني أو قضية فيها اختلاف. ثم تجد أن توصيفاً آخر لمحدثك ربما يكون أميل إلي الدقة. إذا كنت مكابراً ــ لا قدر الله ــ فأنت تصر علي التوصيف الذي طرحته.
أما إذا كنت مجتهداً. تشغلك الحقيقة في ذاتها. فلعلك تقول ببساطة: هذا ما أردت قوله.
أذكر أنني وجدت في الواقعية الصوفية تعبيراً متماهياً. أو موازياً للواقعية السحرية التي توصف بها إبداعات جارثيا ماركيث وإيزابيل الليندي ويوسا وغيرهم من مبدعي أمريكا اللاتينية. وجدت في الواقعية الصوفية معني أشد عمقاً للإبداعات التي تستند إلي الموروث الشعبي. بداية بالميتافيزيقيا وانتهاء بالممارسات التي تنسب إلي الصوفية.
ثم تنبهت إلي تسمية أخري هي الواقعية الروحية. بدت لي تسمية أقرب إلي الدقة. بل هي ــ في قناعتي ــ صحيحة تماماً الواقعية الصوفية تحصر الجو الإبداعي في الممارسات الصوفية وحدها. في مكاشفات أولياء الله وكراماتهم. ما ينسب إلي السيد البدوي وأبي العباس والشفعي والرفاعي والشاذلي والحجاجي وديوان أم العواجز من خوارق ومعجزات. وما ينسب إلي الفرق الصوفية بعامة من إجراءات وطقوس. أما الروحية فهي تهب دلالة أكثر رحابة. وأشد تحديداً في الوقت نفسه. مكاشفات وبركات الصوفية تتماهي مع بنية الواقعية السحرية. وتوظيف الفن للبعد الصوفي ليس لمجرد ما يحمله من خوارق ومعجزات. لكنه يصدر عن فلسفة حياة تشمل الميتافيزيقيا وعلم الجمال والهموم الآنية من سياسة وتاريخ وعلم اجتماع وعلم نفس وغيرها. الصلة موجودة بين الفن السيريالي والأدب الصوفي. وبقدر التأكيد علي وحدة الفنون. فإن الصلة موجودة كذلك بين الأدب الصوفي وما يسمي الواقعية السحرية. وجه العملة الاخر للفن السيريالي والتيار الفني الذي حققت الرواية في أمريكا اللاتينية من خلاله تفوقاً لافتاً.
لكن بعض دارسي الواقعية السحرية يرفضون أن تجد تماهياً. أو حتي مشابهة. مع الموروث الديني أو الشعبي. بعيداً عن الإنثربولوجيا علي المستوي الإنساني. في ذكرياتها "بلدي المخترع" تؤكد إيزابيل الليندي أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس. أدخلتها في الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمي بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير. ويقول ماريو بينيدتي إن ظهور حركة الواقعية السحرية أو العجائبية. ليس مرده الواقع العجائبي. وإنما الواقع المروع. وقد عاب ماركيث علي واقعية الأجيال الحالية ــ والتعبير له ــ غياب البساط الذي يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال. والعبد الذي يظل داخل الدجاجة مائتي عام. قبل أن يتاح له الخروج إلي العالم.
وثمة النظرة إلي الموت والموتي. إنها تكوين مهم في موروثنا الشعبي بكل ما يحفل به من معتقدات وممارسات وعادات وتقاليد. نحن نؤمن بالخلود. وأن الموت انتقال من حال إلي حال. لذلك يأتي انشغالنا ببيت الاخرة. مقابلاً لإهمال بيت الدنيا. تدلنا الحفائر والتنقيبات علي آثار تتصل بالعالم الآخر: الأهرامات. مصاطب المقابر. الأجساد المحنطة. الأوشابتي. إلخ. لكننا لا نجد أي أثر لبيت الدنيا. البيوت التي كان يعيش فيها قدامي المصريين.
وبالطبع فإننا نؤمن أن الصلة بموتانا ــ أو صلتهم بنا ــ لا تنقطع. إن لم نرهم رأي العين. فإنهم يزوروننا في الأحلام. أو ما يشببها. ويحرصون علي متابعة أحوالنا. ويشعرون لتلك الأحوال بالقلق والخوف والفرح والحزن. وهم في دار الحق. بينما نحن في دار الباطل.
باختصار فإن الروحية هي التعبير العلمي والموضوعي لإبداعاتنا التي تنظر إلي الضفة الأخري. أو تحاول أن تنتقل إليها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف