د . محمد مورو
الإنسان الضبع (قصة قصيرة)
هذا مصنع نموذجي ، إنه ينتج من إطارات الكاوتشوك أكثر مرة ونصف من أي مصنع كاوتشوك في العالم ، وذلك لأن الإدارة فيه تعتمد على العلم والعلم وحده ، وإذا كانت المادة تخضع للقوانين العلمية فقط فإن العامل هنا يخضع للقواعد العلمية وحدها ، لا مكان لدينا للعواطف أو الحب أو الكره ، بل للرياضة والمنشطات التي يتناولها العمال فيعملون أكثر بصورة آلية .
قال مدير المصنع السيد " أ " هذا وهو فخور أمام مجموعة من الصحفيين في ذكرى مرو عام على بدء الإنتاج في المصنع ثم أردف قائلاً كما ترون الآلة والإنسان أصبحتا شيئاً واحداً ، بل إن العمال لدينا لا تعرف أسماءهم بل هم مجرد أرقام ، فإذا عمل في الوردية ألف عامل مثلاً فإن الإنتاج يكون 200 إطار ، وهكذا فالمسألة كلها حسابات فقط .
سأل أحد الصحفيين سيادة المدير قائلاً ، هل لديكم عمال لا يتجاوبون مع هذا النظام الآلي الدقيق .
قال المدير نعم هناك ولكننا نتخلص منهم شيئاً فشيئاً حتى يصبح العمل آلياً وحسابياً بنسبة 100 % ، إن هذا يثبت أن طريق الحضارة طريق آلي وحسابي فقط ، فليس الإنسان إلا جزء من المادة وعلينا تنميطه شيئاً فشيئاً ليصبح مادة فيخضع لقوانين المادة ، ومن ثم يصبح العمل أكثر دقة وانضباطاً ويزيد الإنتاج وهذا يعود على العاملين بالمال أكثر ومن ثم يصبحون قادرين على اقتناء سيارات أو شرب الخمر ومعاشرة النساء أكثر .
رد صحفي أخر وهل يسمح بالعلاقات الجنسية بين العاملين .
المدير نعم ولكن في أوقات الراحة ، لا مشكلة لدينا في العلاقات الجنسية – بل إننا نرى العلاقات الجنسية خارج إطار الأسرة أكثر ملائمة لنا لزيادة الإنتاج ، بل حتى لو حدثت علاقات مثلية جنسية بين رجل ورجل أو امرأة و امرأة فهذا يسرنا ولا يضيرنا أو على الأقل لا يعنينا ، إننا نريد أن نضع نموذجاً خاضعاً لقوانين الطبيعة فقط ، وهذا هو سر نجاح مصنعنا .
انتهى المؤتمر الصحفي وبدأت ساعات أخرى من العمل ووردية أخرى من العاملين ، إنهم يتمتعون بأجسام رياضية ، والرياضة في هذا المصنع جزء من النشاط المفيد ، وتناول العمال حبوباً منشطة يزيد في قدرتهم على المزيد من العمل والنشاط ، كأن النعمة بادية عليهم – قال العامل " ب " وهو مثلي الجنسية لأخر " ج " هل نلتقي اليوم بعد العمل ، فأجابه الأخر نعم سيحدث وسنقضي وقتاً ممتعاً ، وربما نتفق في النهاية على أن نتزوج بعضنا البعض .
قال ب " ولكنك تتزوج ولك ابن من زوجتك " ، قال " ج " وما المانع أن تكون الأسرة مني ومنك ومن الزوجة والابن ، أليس هذا هو التطور الطبيعي للحضارة .
قال " ب " ولكن زوجتك بدورها لها صديقة أنثى فهل يتزوجان أيضاً .
قال " ج " لا مانع ولينضم الجميع في أسرة واحدة وهذا سوف يزيد الأبناء اقتراباً من النموذج المادي لحضارتنا التي لا تعترف بما يسمى الأخلاق ، والأخلاق مجرد خدعة من الضعفاء لابتزاز الأقوياء .
قال " ب " حسناً فلتعمل بجد ونشاط حتى تحصل على المزيد من المال ليتسنى لنا شراء الخمر والمخدرات ، قال " ج " لقد تناولت جرعتين من المنشطات لأحقق إنتاجية أعلى هذا اليوم الذي سوف يكون ختامه علاقة حميمة بيننا ، قال " ب " لا تقل كلمة حميمة فهذه كلمة أسقطناها من القاموس فاستبدلها بكلمة علاقة أكثر لذة أو أكثر مادية لتكون لغتنا انعكاساً لثقافتنا .
في هذا الوقت بالتحديد جاء العامل إبراهيم الذي رفض أن يتنازل عن اسمه وطلب الدخول إلى وردية العمل – فقال له مسئول الوردية إنك تأخرت ربع ساعة وسيتم خصم نسبة من أجرك ، قال إبراهيم لا بأس . قال مسئول الوردية إذن تفضل بتناول حبة من المنشط حتى تكون أكثر قدرة على العمل ، رفض إبراهيم ذلك بقوة وقال هذا لا يليق بي كإنسان ، قال مسئول الوردية وهو يضحك ملأ شدقيه إنك تتعثر في حياتك وديونك تزيد ولا تنتج ما يكفي للحصول على المال لسداد إيجار مسكنك أو اقتناء سيارة مثل زملائك ، وفي آخر الأمر إنني أنصحك .
صمم إبراهيم على موقفه ودخل إلى العمل – كان إبراهيم يفكر في زوجته الحبيبة وكان يفكر في ابنه المعاق وكان يفكر أن عليه أن يصحب زوجته وابنه إلى أحد المسارح لرؤية مسرحية كما يفعل كل أسبوع .
انتهى يوم العمل ، وحصل إبراهيم على نصف الراتب الذي حصل عليه الآخرون ، وذهب فاشترى طعاماً وشراباً وقطعة من الشيكولاته لابنه وذهب مسروراً إلى المنزل .
أعدت زوجته الطعام وأخذ إبراهيم يحكي حكايات مسلية وأخلاقية لابنه إسماعيل ، وبعد إعداد الطعام أكلا معاً وكانوا سعداء جداً ، ثم لبسوا ملابس السهرة وذهبوا إلى المسرح .
انتهت المسرحية وعادوا إلى المنزل ، وتناقش مع زوجته وابنه عن الجوانب الأخلاقية في المسرحية التي تدعو إلى الخير ورفض الشر ، ولكن الحديث انزلق إلى قضايا أخرى ، الزوجة قالت لزوجها أن أجر المنزل لم يدفع ، وهناك ابن أخيك الذي يتصادف عيد ميلاده غداً ومن الضروري أن تذهب إلى بيت أخيك لمجاملته بهذه المناسبة .
قال إبراهيم اتركي الأمر لله ، فإننا ذاهبون في النهاية إلى الآخرة وسنجد نعيماً دائماً ، لأن كل تلك الأمور الدنيوية لا تساوي عند الله جناح بعوضة .
قالت الزوجة هذا صحيح تماماً ونحن سعداء رغم كل الظروف العصيبة .
***
صحا إبراهيم مبكراً وساعد ابنه على إعداد حقيبة المدرسة وحمله على كتفه واتجه إلى المدرسة ، كان سعيداً جداً أنه يساعد ابنه المشلول على التعليم ، وكاد الابن يشفق على أبيه من كثرة الأعباء ، ولكن الأب كان يخفف عنه ويقول أننا نقبل قضاء الله بكل سرور .
وصل الأب والابن إلى المدرسة ، وعرف أنه مطلوب لمقابلة مديرة المدرسة ، فذهب إليها وقال لها السلام عليكم ، فلم ترد عليه وقالت إنك تأخرت في دفع مصروفات المدرسة ولا بد أن تدفعها وإلا فلن نسمح لابنك بمواصلة التعليم لدينا يمكنك تعليمه في مكان أخر أو بنفسك .
عاد إبراهيم إلى المنزل محزوناً شيئاً ما ، وفهمت الزوجة ذلك وقالت له لا بأس يمكنني أن أقوم بتعليم الولد بنفسي وتوفير مصاريف المدرسة .
عانقها إبراهيم وقبلها بحنان ، فهذه سيدة طيبة تقف إلى جوار زوجها وابنها ولم تتبرم أو تشكو قط .
ذهب إبراهيم إلى العمل متأخراً كعادته ، ورفض تناول المنشطات ودخل إلى العمل في الوردية ، قال لأحد العمال " ع " إنني ألاحظ أن عضلاتك تقوى يوم بعد يوم ، وأن أسنانك تزداد طولاً ، وأنك لم تعد قادر على مناقشة أية قضية أو تتذوق أي قصيدة شعر أو قطعة موسيقى .
ضحك العامل " ع " وقال ما فائدة هذه الأشياء ولكنني في المقابل أصبحت أمتلك سيارة وأنفق على لذاتي وأعيش حياتي بالطول والعرض .
قال إبراهيم ولكن هذا لا معنى له .
قال " ع " تركت لك المسرح والموسيقى والشعر والأدب مقابل أنك تركت لي السيارة والمخدرات والخمر والنساء ، والرجال إذا أمكن .
في المساء ذهب إبراهيم إلى منزل أخيه وحضر مع زوجته وابنه عيد ميلاد ابن أخيه ، وأعطى لابن أخيه هدية عبارة عن اسطوانة عليها موسيقى لبتهوفن ، وفرح بها ابن الأخ فرحاً شديداً وشعر الجميع بالسعادة في ذلك الحفل .
عاد إبراهيم مع زوجته وابنه إلى المنزل ، ولكنه وجده مغلقاً وقد ألقيت قطع الآثاث خارج المنزل ، لأن صاحب المنزل قرر طردهم دون حتى أن ينذرهم أو يتحدث إليهم أو يعطيهم مهلة .
حمد إبراهيم الله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، وحمل مع زوجته بعض الآثاث وذهب إلى حديقة قريبة واتخذ من شجرة ظلاً له ووضع الآثاث وبعض الأقمشة لبناء خيمة بين الأشجار ولم يفقد تفاؤله .
قالت الأم ، لقد ذهبت واتفقت مع أحد المستشفيات على بيع كلية لأحد الذين يحتاجون إلى نقل كلية ، لكي نستطيع أن ننفق على حياتنا الصعبة ، قال إبراهيم ، سبقتك وفعلت الشيء نفسه .
حصل إبراهيم وزوجته على ثمن كليتين وعاش كل منهم بكلية واحدة وزاد اهتمامهم بالابن المعاق ولم يفقدا صبرهما أو إيمانهما .
***
حدثت ظاهرة تحدثت عنها الصحافة في المدينة ، وهو أن الأطفال الذين ولدوا حديثاً كانت أسنانهم طويلة وتشبه وجوههم وجوه الضباع ، وعلق إبراهيم على ذلك أنها بسبب المنشطات التي يتناولها العمال وأن علينا أن نرحل بسرعة من تلك المدينة ، حتى لا تفترسنا الضباع ، رحل إبراهيم وزوجته وابنه عن المدينة ، التي تحول كل أفرادها إلى ضباع يأكل بعضهم بعضاً وينهش بعضهم لحم بعض ولم يتبق في تلك المدينة إنسان واحد .