جريدة روزاليوسف
محمد بغدادى
أيام الكابتن غزالى
عندما جاءت سنوات النكسة بمرارتها وقسوتها ظهرت نماذج مضيئة من البشر.. وكان فى مقدمتها الكابتن غزالى.. ذلك الرجل الذى حمل بداخله عبر ثمانى عقود هموم هذا الوطن.. عرفناه فى فترة من أخصب الفترات التى مرت بها مدينة السويس.. وهى فترة امتدت عبر سبع سنوات بداية بحرب الاستنزاف.. ونهاية بصمود السويس الأسطورى فى الحصار حتى النصر المبين.. وعندما أكتب الآن عن الكابتن غزالى الذى رحل منذ أيام.. فنحن نتحدث عن تجربة مناضل عنيد.. كل ما كان يمتلكه عبر رحلة كفاحه هو عشقه لبلاده.. فالكابتن غزالى لم يكن مجرد مؤسس لفرقة تغنى أناشيد وطنية فى زمن الحرب.. ولكنه تحول إلى رمز للمقاومة.. بعد أن تولدت فكرة تكوين فرقة «أولاد الأرض» فجاءت أولى أغنيات الفرقة أقرب لشعارات الحرب الحماسية.. وكانت دماء شهدائنا الطاهرة لم تجف بعد على رمال سيناء.. فانطلق صوته رافضا الهزيمة.. مقاوما ومواجها لغطرسة العدو المنتصر.. حين قال:
«مش ح تمر.. خليجنا بتاعنا.. مش ح تمر»..
وسرعان ما ألهبت هذه الشعارات حماس الجماهير.. وبدأت رحلة أولاد الأرض فى نجوع وقرى ومدن مصر.. وبخروج الكابتن غزالى من السويس وجد سببا جديدا لتطوير أغنياته.. فبعد أن كان الغناء يستهدف الجنود على جبهة القتال.. أصبحت الأغنيات تسخر من أفنديات العاصمة.. حيث أفزعه حال العاصمة وسكانها.. ومظاهر الترف التى يعيشون فيها.. بعيدا عما يحدث على جبهة القتال فانعكس ذلك على أغنياته.. فكتب رافضا هذا الفصام الذى أصاب مجتمع العاصمة صارخا فى وجوه الجميع:
لأ لأ.. لأ لأ
لأ.. مش ح اغنى للقمر
ولا للشجر
ولا للورد فى غيطانه
ولانيش سواح
ولا ح اقول للهوى طوحنى
طول ما فيكى يا بلدى شبر مستباح
وأصبح غزالى رمزًا للمقاومة.. وفى دكانه البسيط صار يستقبل كل رموز الفكر والأدب.. فزاره فى هذا المكان صلاح جاهين.. وأمل دنقل.. ومحمود درويش.. والأبنودى وغيرهم.. وكانت تلك الأيام تسمى أيام «الكابتن غزالى» أيام إظلام السويس.. حيث كان من يأتى إلى السويس فى تلك الفترة محب للبشر وللإنسانية... فما بالك بمن كانوا يقيمون فيها.. وتحولت السويس إلى ضمير حى للمقاومة.. ورمزًا للصمود.. وتعمق إحساسنا بهذه المدينة التى تحولت إلى وطن باتساع الكون.. بفضل الكابتن غزالى.. وربما نكون ــ نحن ــ أبناء هذا الجيل أقوياء لأننا أبناء تلك الفترة.. حيث كنا نعلم ما لا يعلمون.. ونرى ما لا يرون.. ونعيش لحظات نبيلة.. لا يقوى على أن يعيشها إلا من أحب الحياة إلى درجة الموت.. من أجل أن تكون كريمة إلى هذا الحد.. وإلا فلا سبب واحد يدعوك للاستمرار فيها.. ولعل من أشهر أغانيه التى كانت تُستقبل بحفاوة وحماس يؤكد إصرار المصريين على الثأر لشهداء حرب 67 الذين غُدِر بهم هى:
فات الكتير يا بلدنا.. ما بقاش اللى القليل
بينا يلا بينا.. نحرر أراضينا
وعضم أخواتنا.. نلمه نلمه.. نسنه نسنه..
ونعمل منه.. مدافع.. وندافع
ونجيب النصر هدية لمصر
ونكتب عليه أسامينا
وظل الكابتن غزالى يطوف المدن.. ويزور المهجرين فى معسكراتهم.. يواسيهم.. ويعدهم بالنصر والعودة.. فيغنى لهم :
غنى يا سمسمية.. لرصاص البندقية
ولكل إيد قوية.. حاضنة زنودها المدافع
غنى لكل مهاجر.. فى الريف أو فى البنادر
فى معسكر أو فى شادر.. وقولى له على عنيه
غنى ودق الجلاجل.. مطرح ضرب القنابل
راح تطرح السنابل.. ويصبح خيرها ليَّا
ومن عجائب الحياة السياسية فى مصر.. أن الكابتن غزالى بعد أن التف حوله كل من استمع إليه من كل الفئات من الجنود والبسطاء والمثقفين.. إلا أنه فى عهد الرئيس السادات صدر قرار من الاتحاد الاشتراكى بإبعاده عن السويس.. وأصبح الكابتن غزالى محرومًا من دخول مدينته التى أحبها كل هذا الحب.. وقامت الحرب وحوصرت السويس.. ولكن أغنياته ظل يرددها كل رجال المقاومة الذين تصدوا للهجوم الإسرائيلى.. وكانت أغانيه فى ليالى الحصار أقوى أسلحتهم.. وأشد ما يزعج قوات العدو الصهيونى.. وفى الأيام الأخيرة رحلت رفيقة رحلته.. ولم ينتظر الكابتن غزالى طويلا فرحل بعدها بأيام قليلة.. وداعا لأيام الكابتن غزالى العظيم البسيط.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف