للأستاذ د. وائل حلاق وهو مفكر من أصل فلسطيني وأستاذ في علم الاجتماع وهو بالمناسبة مسيحي وعلماني كتاب بعنوان الدولة المستحيلة ، يرى أن من المستحيل إقامة دولة إسلامية في إطار النظام العالمي السائد في العالم ويشرح أسباب ذلك من ناحية علم الاجتماع .
وبديهي أنه لكي تقوم دولة إسلامية قادرة على تطبيق الشريعة فإن هذا يعني أن تلك الدولة ستفرض قواعدها على العالم شاء أم أبى وهو ما يعني أن الهيمنة في الدنيا لصالحها ، أو على الأقل هناك تعادل حضاري أو توازن رعب متبادل .
ولعل هذه الحقيقة – حقيقة أن العالم الإسلامي أو الحضارة الإسلامية الآن هي في حالة هزيمة تكنولوجية عسكرية اقتصادية سياسية ، وهذا ما يقود البعض إلى القول أن الغرب أفضل منا ، وهذا غير صحيح ، فالقوة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية لا تعني الأفضلية ، بل إن المسلم أفضل إنسان في الكون لأنه لم يخضع حتى الآن للمرجعية المادية أو اللا معيارية التي تسود العالم والتي تفضي إلى التوحش والحوسبة والتشيؤ ودمار الإنسان وعدم مرجعية الأخلاق وغيرها ، فالذي يتمسك بدينه ومن ثم أخلاقه – وهو المسلم حتى الآن ، لأن عدد من يذهبون إلى المساجد أكثر بكثير من عدد من يذهبون إلى الكنائس ، ومن ثم فإن الذي سيحافظ على العالم من الخضوع الكامل للعلمانية والمادية واللا معيارية حتى الآن هو المسلم ، وعلى كل حال فلا تحزن أيها المسلم حتى لو خضع العالم كله للمادية أو اللا مرجعية أو اللا معيارية أو غيرها ، لأنك تدرك أن ذلك ممكن أن يحدث لأن الله أخبرنا بذلك " وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً " .
بمعنى أنه من الممكن أن تصبح المادية قادرة على السيطرة على كل شيء ويصبح الأمر مجرد مادة استعمالية حتى ولو كان يسيطر بالعلم على كل المواد ويحقق أعلى إنتاج بمعنى أن يتصور أهل الأرض أنهم قادرون عليها فيأتي أمر الله وتقوم القيامة .
في عالم تسوده الرأسمالية وما يسمى بحقوق الإنسان وحقوق المرأة المزعومة وحركات التمركز حول الأنثى وقوانين مؤتمرات الأسرة وزعم أمريكا والغرب أن هناك قيماً حضارية مطلقة ينبغي الخضوع لها ، فإن من المستحيل تطبيق قواعد الاقتصاد الإسلامي مثلاً أو حتى مجرد تحريم الربا ، وهذا النظام الاقتصادي الربوي – لا رأسمالية بدون بنك ولا بنك بدون ربا . فإن من المستحيل استمرار الدولة الإسلامية والأمر نفسه بالنسبة للقوانين والشرائع الإسلامية ولا بد من تطويع القوانين الإسلامية لتصبح ملائمة للعصر فتظهر ما يسمى بالليبرالية الإسلامية ، أو ما يسمى بالحل الوسط التاريخي بين الحضارة العلمانية المادية والحضارة الإسلامية وقد حدث هذا بالفعل حيث تخلت حركات إسلامية عن الإسلام وقواعد وثوابت الدين وعبدت آلهة الغرب يوماً وعبدت الله يوماً آخر مثل أردوغان في تركيا وراشد الغنوشي في تونس والإخوان المسلمين في مصر ، ويزعم هؤلاء أنهم يفعلون ذلك لكي يفوتوا الفرصة على الغرب وأمريكا لضربهم ، أو كنوع من المرونة أو أنهم يخدعون أمريكا والغرب والعلمانيين وهي كلها أمور مضحكة لأن الله ذاته قد رد على هؤلاء بقوله " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " ، بمعنى أن منطق من يقبلون أن يهادنوا الغرب أو يقيموا علاقات أو ود مع أمريكا أو الغرب في قلوبهم مرض .
نجد مثلاً أن الحركات الإسلامية مثل أردوغان في تركيا يأخذ الموقف وعكسه في اليوم الواحد فتارة مع أمريكا وتارة مع روسيا ، وتارة مع بشار الأسد وتارة ضده ، وتارة مع داعش وتارة يضربها ... وكذلك الموقف بالنسبة لراشد الغنوشي الذي تنازل عن ثوابت إسلامية كثيرة من أجل قبول الغرب به ، أو أن أردوغان يحل الزنا وإعلانات الزنا وكذا الخمر والميسر ويفتخر بذلك قائلاً أنه لا يفرض سلوكاً معيناً على أحد ثم يدعي الإسلامية وكذلك الإخوان المسلمين مثلاً الذين يذهبون إلى أمريكا لإنقاذهم ويقولون أنه من باب المرونة والحكمة . من الأفضل طبعاً أن نسقط وهم السلطة والدولة ونكتفي بموقف الضمير الحي أي إقامة الشهادة على الناس ، أفضل من الوقوع في الشرك فنعبد إله الغرب يوماً ونعبد الله يوماً آخر ، بمعنى أن العلمانيين يعبدون إله الغرب طول الأسبوع والإسلاميون يعبدونه يوماً بعد يوم .
ولنا في رسول الله أسوة حسنة ، إذ لو كان الأمر موضوع مرونة ودهاء وسياسة ولف ودوران وكذب ، لقبل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجمع له قريش المال فيكون أغناهم ، وأن يجعلونه رئيساً عليهم كما عرضوا عليه فرفض وقال والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري وكان من الممكن مثلاً أن يصبح رئيساً وغنياً ثم يدعو إلى الإسلام على طريقة منطق هؤلاء الإسلاميين الذين يقولون سنداهنهم ونقبل بشروطهم ونتخلى عن الثوابت حتى نصبح يوماً ما ، أقوياء فنعلن ديننا الحقيقي ألا ترى أن ذلك نوع من الذين في قلوبهم مرض .
أما أنت أيها المسلم فلا يهمك أن تقيم سلطة أو دولة إلا بشروطك فإن توفرت فأهلاً بها وإن لم تتوافر أظل شاهداً على الناس .
وفي الحقيقة فإنه في حالة الهزيمة الحضارية أي أن المسلمون أقل قوة ومكانة مادية من غيرهم فإن الأمر يسير بثلاثة طرق إما إقامة دولة إسلامية ومواجهة العالم كله وقد فعلت داعش ذلك ولم تتخل عن أي من ثوابت الإسلام الذي فهمته حتى ولو كان هناك أخطاء في منهجها أو سلوكها ، المهم أنها متسقة مع نفسها وصادقة مع نفسها ، وإما أن نهادن الغرب وأمريكا ونؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض ونعبد الديمقراطية وحقوق المرأة والليبرالية والعلمانية يوماً ونعبد الله يوماً ، وإما وهذه الثالثة هي أفضل الحلول أنه في حالة الهزيمة الحضارية بمعنى أنني غير قادر على فرض أسلوبي على العالم ، فإنه يكفي أن أصبح جماعة ضمير بمعنى أن أقف موقف نظري وإعلامي فقط من أي قضية فأرفض مثلاً إسرائيل وأمريكا والاستعمار وأي ظلم يقع على أي إنسان في أي مكان .
تخيل مثلاً لو أن الحركات الإسلامية انصرفت عن قصة الدولة المستحيلة هذه وعن السلطة وتحولت إلى جماعة ضمير فأعلنت أنها لا تعترف بأمريكا لأنها دولة قامت على إبادة شعب آخر ولا تعترف بإسرائيل ولا تعترف بالرأسمالية أليس هذا هو في حد ذاته نوع من الدعوة إلى الإسلام في العالم كله ، لأن الناس سيكتشفون أنه ما زال هناك بشر لا يقرون الباطل حتى لو أصبح أقوى دولة في العالم ، وأن هناك أناس يقولون الحق ولا يبالون بالنتائج .
لا تقلق أخي المسلم ولا بد أن تدرك أنك الآن لست في الدولة العباسية التي ينظر الخليفة المسلم فيها إلى السحابة ويقول " أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك ، أما الآن فمن يقول ذلك هو رئيس أمريكا مثلاً بوش أو بوتين أو ترامب ، ومن ثم فإنك لا تحزن ولا تحاول المستحيل ولا تقلق إذا اكتفيت بأن تكون ضمير يشهد بالصدق ولا يكذب ويقيم الشهادة برأيه وسلوكه على الناس .
***
نعم الحضارة الغربية متفوقة علينا ، وهذا لا يحزننا بل ربما يفرحنا ، لأننا كنا سادة العالم حوالي 1000 عام ولم نرتكب جرائم حضارية مثلما فعلت الحضارة الغربية ، ولم نكره الناس على الإسلام ، رغم أننا كنا الأقوى وكان قانون تلك الأيام أن يكون الناس على دين ملوكهم ، ومع ذلك ظلت هناك أقليات مسيحية ويهودية وزرادشتية ومجوسية وملحدين في قلب الحضارة الإسلامية وفي قلب العالم الإسلامي ، وهذا يدل على تفوقنا الأخلاقي وليس المادي فقط ، أما الحضارة الغربية فهي قد أبادت شعوب أمريكا واستراليا ، واسترقت السود ونهبت العالم في عصر الاستعمار ، وألقت القنابل الذرية وأنشأت دولة إسرائيل وقتلت الملايين في مذابح وحروب من الحرب العالمية الأولى والثانية إلى حرب الخليج وغزو العراق وجرائمها تحتاج إلى مجلدات ، يستوي في ذلك الرأسماليون والشيوعيون والاجتماعيون والملكيون والجمهوريون ، فالكل أرتكب الجرائم التي لا تعد ولا تحصى .
وهكذا فأنت يا أخي المسلم لا تحزن ولا تقلق ، لأنك على خلق لا يوجد في الإنسان الغربي إلا بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة ، وما يهم الإنسان بوصفه إنسان هو الخلق وليس التقدم المادي لأننا نؤمن أن الدنيا ليست إلا محطة قصيرة إلى الآخرة ، المهم ألا نتورط معهم ولا نقرهم ولا نهادنهم ولا نسارع إليهم كما يفعل البعض منا من حكومات وجماعات إسلامية وسياسية . . . الخ .
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، وهذه آية من آيات إعجاز القرآن ، لأن المؤمن لا يحزن وهو العالي دائماً سواء كان متقدماً مادياً على الآخرين أم متخلفاً عنهم ، وهذا بالطبع لا يعني العجرفة والتعالي الزائف والغرور ، بل المسئولية بإقامة الشهادة على الناس وأن يمتلك المسلم روح الانتصار وليس مادية الانتصار أو عجرفة القوة ، بل الإحساس بالانتصار دائماً حتى وهو في أصعب مواقفه .
أنظر إلى سيدنا عيسى بن مريم نبي الله بن الإنسان ، الذي رفض أن يداهن الدولة الرومانية ، بل انعزل عنها وأعلن عن سلطة الروح في مقابل سلطة الدولة المادية والسياسية والزمنية .
لقد كان عيسى بن الإنسان يأكل من العسل البري وينام في الشارع أي لا يملك بيتاً ولا يعمل عند الدولة الرومانية ، وقاد ثورة ضد الشكل لحساب الجوهر والتدين الزائف الذي يمثله الغربيون والمتورطين مع رأسماليين وجهاز الدولة من اليهود ، وهكذا كان منتصراً حتى لو كان قد سيق إلى الصليب وظنوا أنهم صلبوه ، ولكن الله أنقذه من الصلب بإراداة مباشرة منه تعالى سبحان الله .
وأنظر إلى سيدنا الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف خرج وهو يدرك تماماً أنه مهزوم دنيوياً ومادياً لأنه لم يكن أمامه سوى أن يقاتل بسبعين من أهله ضد جيش جرار ، ولو انسحب لما عاب عليه أحد ، ولكن كان سيتم تفسير الإسلام تفسيراً عائلياً يجعله دين لا علاقة له بالله أو بمحمد ، الحسين فضل الموت لإعلاء الحق وعدم الاعتراف بالباطل فانتصر رغم شكل الهزيمة ، انتصر للإنسان وللقيمة وللدين ولمحمد ولله تعالى .
وهكذا نتعلم أن الموقف يكون واضحاً أو السكوت والتحول إلى ضمير بالرفض الساكن أو إقامة الحجة بالكلام فقط أفضل ألف مرة من أن نعمل مع الرأسماليين وأمريكا ونبرر لها ثم نقول أنها خطة لتمكين الإسلام وتصدر مؤلفات وأقوال ومواقف تبرر هذا وتقعده أي تجعله قاعدة شرعية ، فيتم تزييف الإسلام وإخراجه من الإسلام ويصاب الناس بالبلبلة وتقليد القيم البراجماتية وإخضاع الدنيا من ثم للمادية واللا معيارية بدون نتوءات أي أن تكون مهمة الإسلاميين الذين يقبلون ذلك – وهم جميعاً ما عدا داعش ولا يعني هذا أن داعش لا تخطئ أو ليست لها أخطاء وخطايا ولكن على مستوى الولاء والبراء فهم واصحون حسب ما يتصورون ويكفي أن ثمانين دولة تحاربهم ويواجهونها بصدورهم – أن تكون مهمة الإسلاميين هي علمنة الإسلام من داخله والقضاء على مرجعيته من داخلها ولا حول ولا قوة إلا بالله