أحمد بان
المجتمع المصري والخطاب الدعوي الميت
المتأمل فى أحوال المجتمع المصرى يهوله ما يراه من مستوى غير مسبوق من الجرائم الاجتماعية، التى أخذت بخناقه إلى حد تحويله إلى جحيم حقيقى، حيث أصبحنا نسمع عن طفلة عمرها عامان تتعرض لجريمة اغتصاب، أو سيدات وفتيات يتعرضن للتحرش فى أى مكان عام، والقائمة طويلة ومخزية يضاف إليها جرائم الإهمال فى تأدية الأعمال أو سرقة المال العام، أو عدم إتقان العمل أو المعاملة السيئة للمراجعين أو طالبى الخدمة، وأقلها عبوس الوجه وتعطيل مصالح الخلق، أو ما نراه فى طرقنا من كوارث تودى بحياة الناس والحرص على مخالفة الأخلاق والقوانين على نحو غير مسبوق. تبدو الشخصية المصرية بعد عقود من غياب أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية فاقدة تمامًا لمناعتها الحضارية، حتى إنها إلا ما رحم ربك باتت تفتقر إلى الحد الأدنى من القيم والأخلاق، وأصبح من النادر أن تصادف إنسانًا لا يزال يتمتع بحد مناسب من القيم والأخلاق، التى ربما تعود فى الغالب لعراقة أصل أو يقظة أسرة ما زالت تتمسك بأهداب الدين والخلق وتربى أبناءها عليها. هذا الواقع المخيب للآمال وهذه الأمراض الاجتماعية، التى أمسكت بخناق المجتمع فلم تترك فئة لم ينلها هذا التردى الأخلاقى، إنما هى الحصاد المر لهذا التراجع الفادح فى تأثير الخطاب الدعوى، الذى أعتبره دون تجنٍّ خطابًا دعويًّا ميتًا لم ينجح فى اختراق أسوار النفوس ليشق طريقه فى عملية تزكية معطلة منذ عقود. وإذا كان التعريف العلمى الدقيق للخطاب الدعوى، أنه جملة ما يعبر عن المتكلمين من مضامين دعوية تتلاءم مع متغيرات ومستجدات العصر، بعد فهم واقعهم واحتياجاتهم شرط التقيد بالأطر المرجعية المقدسة، من أجل استمالة عقل وضمير المتلقى للخطاب الدعوى، وجعله يتأثر به ويستجيب لمقاصده، باستخدام كل الوسائل المشروعة التى تؤدى إلى تحقيق مناط الدين فى إصلاح الخلق عبر إصلاح أحوالهم. وإذا كان لهذا الخطاب الدعوى خصائص تأتى من صميم الدين ورسالته، سنجد أن أى معايرة لهذا الخطاب الدعوى على الخصائص التى من المفترض أن يتقيد بها، يبرز كم ابتعدنا عن معايير وخصائص الخطاب الدعوى الصحيح. الخطاب الدعوى للإسلام هو كالدين ذاته، عالمى موجه لكل البشرية يستبطن قيم الرحمة والعدل والحرية والتسامح، فهل ذكر الإسلام اليوم يبرز تلك القيم أم أن مصطلح الإرهاب هو الأبرز فى العلاقة مع الإسلام، نعم هذا ظلم للإسلام ولكن دعونا نعترف بصراحة من قدم الإسلام بتلك الطريقة؟ هل غير المسلمين لبسوا لباسنا وتحدثوا بلساننا ليسيئوا إلى ديننا ولرسالته؟ الخطاب الدعوى يدعو للنهضة والتقدم ويتبنى القيم التى تُعبِّد طريق الأمة نحو تنمية شاملة وتقدُّم، فهل خطابنا الدعوى يمضى فى هذا الطريق؟ هل خطابنا توحيدى يستدعى القيم المشتركة التى تصنع وحدة الشعور والتصور وتبنى القدرة على العمل المشترك ووحدة المصير والهدف، أم أن خطابنا الدعوى يعزز الفرقة على أسس مذهبية أو سياسية أو اقتصادية؟ كيف يتحدث البعض عن وحدة الأمة ولم تتوحد مفاهيمنا نحو الدين والخلق وأولوياتهما؟ سمانا ربنا المسلمين فنشأت على أرضنا مفاهيم ومصطلحات جديدة بدأت بالسنة والشيعة لتصل إلى مسلمين وإسلاميين، وبدأ التشظى ولم يقف ولا أظنه يقف إلا إذا عدنا الى نقطة البداية ومنبع النهر. الذى يقول "وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"، غلب العرف والعرق الشريعة والدين، وضاعت مقاصد الدين لحساب مقاصد الطائفة والحزب وجماعات لا تحركها سوى إرادة الأعداء.
إن تحليل أى مفردة من مفردات الخطاب الدينى، سواء كانت خطبة جمعة أو محاضرة أو درسا بالمسجد أو كلمة إذاعية أو تليفزيونية يصدمنا بغياب مقومات الخطاب الدعوى الصحيح، فضلا عن الافتقار للعناصر الرئيسة لأى منها. لا آيات قرآنية مناسبة للموضوع والسياق المختار، ولا حتى قراءة صحيحة للآيات قد تكفى وحدها لإحداث الأثر المطلوب فى النفوس السوية. لا حديث مضبوط متنًا أو رواية أو سندًا، بل ذكر ما يعن للخطيب دون تدقيق أو ضبط، ودعك من السيرة النبوية التى يروج باسمها روايات لا نعلم من أين يأتون بها، وإن اشتهرت على لسان الكافة بفعل التكرار والإلحاح، يضاف الى ذلك سوق بعض القضايا الفقهية باعتبارها صحيح الدين الحصرى والأقرب إلى مراد الشارع الحكيم، على الرغم من أنها لا تعبر سوى عن وجهة نظر فقهية تعايشت مع آراء فقهية أخرى ومتعددة، وقديمًا علمنا الشافعى بقوله "رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب". إن واقع الخطاب الدعوى مزرٍ على مستوى المضمون والوسيلة والقائم بالدعوة، يحذر بعض المفكرين ممن لديهم القدرة على الاستشراف أن مصر كادت تنضب من العلماء، وأن المنتج التعليمى سواء فى التعليم الدينى أو المدنى أصبح بالغ الفقر والضعف، وأن من يتصدر فى الغالب الأضعف علميًّا والأطوع سياسيًّا، مما خلف معادلة لا تطرح سوى الردىء من الدعاة ليتصدروا المشهد بخطابهم البائس الفقير البعيد عن مقاصد الدين. إن مفهوم التزكية الفردية والجماعية لا يستقيم فى ظل هذا الضعف الذى اعترى معاهدنا الدينية، التى ينبغى أن تستأنف لياقتها العلمية والخلقية لكى تقوى على إنتاج خطاب ناجح ومؤثر فى المجتمع، خطاب متلهب حى يخاطب العقل ويوقظ الوجدان متماسك لغةً ومنطقًا وبيانًا. كانت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتجاوز عشر دقائق وهو الذى أوتى جوامع الكلم ينطق بالوحى، ثم تقادمت العصور فابتلينا بخطباء ينعقون لساعة أو أكثر فلا تكاد تظفر بموعظة توقظ القلب، أو كلمة تشبع العقل وقل مثل ذلك فى الكلمة المسموعة أو المرئية. أين هى الكلمة المسموعة والمرئية فى قنواتنا وإذاعاتنا التى تشتبك مع قضية الهداية والتزكية، نحن لا ننادى بقنوات دينية على طريقة القنوات التى كانت توجهها حركات الإسلام السياسى، لكن من حق التيار الإسلامى الوسطى أن يعبر عن نفسه من خلال قنوات وإذاعات تستعيد تأثير الدين فى النفوس، وتستعيد السلام المجتمعى الغائب وتسكن القيم فى نفوس الناس، لنرى سلوكيات تليق بالمسلمين تبرز حقائق ديننا المحجوبة خلاف ممارسات شذاذ الأفاق أو المفرطين فى ثوابته. لقد خلف غياب الجماعات الإسلامية الحركية فجوة فى بعض الخدمات الاجتماعية التى نشطوا فى مجالاتها فى السابق، لكن الأثر الأسوأ لأجواء الصدام بين الدولة وجماعات الإسلام السياسى أنها وضعت الجماعات الدعوية فى سلة واحدة مع هؤلاء، ومن ثم ضيقت عليهم فأصبح كل نشاط دعوى متهما ومحاصرا وهو ما حرم المجتمع من طاقات خير كانت ستنفتح على النفوس، ترطب طبائعها وتصوغها على مراد الله ومقاصد الدين السمحة من قبول وانفتاح وتعايش ودعوة لمكارم الأخلاق، التى جعلها الرسول أساسا لدعوته "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". لن يحيى المجتمع خطابا ميتا يفتقر لعناصره الرئيسة، والأهم روحه المحركة التى تجردت من سلطان الحكومات وقيودها، أو سلطان الكيانات الحركية التى أضرت بنفسها وبدينها وأوطانها، وتحولت من حل إلى مشكلة أضيفت إلى مشكلاتنا المعقدة. نريد واعظ الوجدان لا واعظ السلطان، سلطان القرآن لا سلطان القهر باسم الدين أو القانون. لا يصلح الأمم سلطان القوانين وحدها، بل إصلاح النفوس وتعهدها هو ما يمهد السبيل لنجاح القوانين، وهو ما أدركته كل الدول الناهضة لو تعلمون.