حسن ابو طالب
التطهير الحاسم شرط للانتصار
قبل أسبوع من تفجيرات كنيستى مارجرجس بطنطا والمرقسية بالإسكندرية، كنت ضيفاً فى مؤسسة إعلامية قومية كبرى، بعد انتهاء المقابلة وأثناء خروجى من الاستوديو متوجهاً إلى المصعد لفت نظرى وجود عبارات مسيئة لرئيس الدولة على أجزاء من الحوائط وخلف الأبواب، وبجوارها أجزاء تم طلاؤها حديثاً غالباً لإخفاء عبارات مسيئة، فذهبت إلى رجلى الأمن ولفت نظرهما إلى ضرورة طمس مثل تلك العبارات لأنها تسىء للمكان كله، فكانت إجابتهما دون تردد: «لقد فعلنا ذلك بالفعل مئات المرات، ولكن العبارات تعود من جديد بكثافة أكبر وفى أجزاء مختلفة من الحوائط وخلف الأبواب»، ثم أضافا قائلين: «هناك الكثير من إياهم فى هذا المبنى، بعضهم معروف تماماً، والبعض الآخر يتحرك فى الخفاء ولا نستطيع أن نفعل لهم شيئاً».
العبارة الأخيرة هزتنى بالفعل، فهم كرجال أمن يعرفون كما يعرف القائمون على هذا الصرح الإعلامى الكبير من هم رجال الزمن الإخوانى المنتشرون فى مواقع عدة، ولكن القدرة على التصرف معهم شبه معدومة، ربما خوفاً أو بسبب قصور القوانين، أو رهبة من المواجهة ومن ثم تطهير المؤسسة. هذه الواقعة ربما تفسر لماذا دخلت القنبلة التى تم تفجيرها فى كنيسة مارجرجس بطنطا رغم أن الأمن اكتشف وفكك قنبلة مماثلة فى المكان نفسه قبل عشرة أيام مضت حسب رواية إحدى الشاهدات. والاستنتاج المنطقى أن هناك اختراقاً تم بشكل أو بآخر. وعادة تحدث الاختراقات من ضعاف النفوس ومن المنافقين ومن الطابور الخامس.
ثمة أمور تتطلب الحسم والقوة، أياً كان القيل والقال، فمصلحة الوطن والمواطنين أعلى من أى اعتبار آخر، خاصة إذا كانت البلاد فى حالة حرب، وفى حال كالذى نمر به، فإن تجاهل التعامل مع الأفراد الخبثاء الذين يمثلون طابوراً خامساً ينتشر فى مفاصل الدولة المختلفة، ويعيث فساداً وتخريباً وينشر الإشاعات ويدير عمليات التأثير النفسى على المواطنين العاديين بخطة مدروسة، ويؤثر بتحركاته الخبيثة على الجهود المبذولة من أجل القضاء على الإرهاب والإرهابيين يمثل نقطة ضعف كبرى وينفذ منها ما لا يحمد عقباه. بل ربما يقود بعض هؤلاء الخبثاء فى الواجهة جهوداً باسم الدولة لمواجهة الإرهاب وفى حقيقة الأمر يفعلون العكس تماماً. ويزداد الأمر سوءاً إذا كان مثل هؤلاء المنافقين والخبثاء فى قمة مؤسسات من واجبها أن تواجه التطرف والمتطرفين بالفكر السليم والوعى الوطنى وصحيح الدين.
مصر الآن مقبلة على مواجهة من نوع خاص مع حالة إرهابية خبيثة سواء كان اسمها «داعش» أو «النصرة» أو «القاعدة» أو «الإخوان» أو «التنظيم العالمى»، ولكنها تتلون وتتطور بفعل التطورات التى تعيشها المنطقة والعالم بأسره. وهى حالة لم تعد مقتصرة على منظمات ذات طابع محلى تركز على مساحات محدودة، بل صارت حالة تستهدف العالم كله، وتسعى إلى أستاذيته، ومهما تعددت الأسماء فهى كلها من أصل واحد وفى مركب واحد، أما قائد المركب فهو من بلاد بعيدة تعمل بكل قوة على هدم الدول الرئيسية فى العالم العربى كما حدث فى العراق وسوريا واليمن وليبيا، ويبقى الدور على مصر. وأعتقد أننا فى مصر كشعب وكمؤسسات نعرف تماماً من هو قائد مركب الإرهاب الدموى الراهن، ونعرف أيضاً ماذا يريدون وماذا سيحققون إذا تمكنوا من تحقيق أهدافهم. ومع ذلك فسياستنا الرسمية قائمة على إخفاء هؤلاء وعدم التعرض لهم أو فضحهم وبيان انحطاطهم وسفالتهم، بل الصبر عليهم لعل العلى القدير يهديهم إلى الصراط المستقيم. والواضح أن هذه السياسة لم تعد مناسبة لطبيعة المرحلة التى وصل إليها الإرهاب الدموى فى بلادنا العزيزة. فالصبر على ممولى الإرهاب وداعميه وإخفاء فضائحهم لا يشكل لهم ردعاً من أى نوع. كذلك الاعتماد على أن المجتمع الدولى قادر على ضبط هؤلاء وتقييد تحركاتهم الإرهابية لم يعد موقفاً رادعاً لهم. والخطير هنا أن بعضاً من داعمى الإرهاب الكبار هم من دول كبرى، فكيف لنا أن ننتظر تحركاً من المجتمع الدولى لمعاقبة من أنشأوا الظاهرة ويكدون ليل نهار فى انتشارها ومدها بالأفكار والأموال والتدريبات المناسبة والدعاية المحبوكة.
المرحلة الراهنة فى مواجهة الإرهاب وصلت إلى نقطة فاصلة. لقد قمنا ونقوم بتسويق أنفسنا على أننا أصحاب تجربة مهمة وناجحة فى محاربة الإرهاب، وندعو الآخرين للتعاون معنا أو القيام بخطوات مماثلة لما قمنا به فى مصر. ولا يعنى ذلك أن عملاً إجرامياً كالذى جرى فى كنيستى مارجرجس بطنطا أو المرقسية فى الإسكندرية يعبر عن فشل منظومة المواجهة المصرية فشلاً كاملاً، فقد حققت تلك المنظومة نجاحات كبيرة فى سيناء وجنوب البلاد والعديد من المحافظات. ولكنه نجاح باهظ الثمن من دماء المصريين ومن ثروات بلادهم، ولم ينته بعد. وفى الأفق مواجهات عنيفة مقبلة تتطلب تجديداً كاملاً فى منظومة المواجهة للمرحلة المقبلة، مواجهة تقوم بالأساس على مبدأ ضمان قوة الدولة دون شكوك، والضرب بيد من حديد على كل من يشارك فى زعزعة ثقة المصريين بأنفسهم أو يعمل على إفشال المؤسسات العامة أو التمهيد لانهيارها.
إن نشر قوات مدربة تابعة للجيش وأخرى تابعة للشرطة لحماية المؤسسات الرسمية ودور العبادة، وفرض حالة الطوارئ لفترة ثلاثة أشهر، وإنشاء مجلس قومى لمكافحة الإرهاب ذى صلاحيات قوية، هى خطوات جيدة تأخرت كثيراً، ونحمد الله أنها قد اتخذت استعداداً لمعركة كبرى فى مدى زمنى محدود. والمهم هنا أن يكون عنوان المرحلة المقبلة هو الحسم والوضوح. فبدون التخلص من الطابور الخامس فى مؤسساتنا الرسمية، وبدون برنامج محدد واستراتيجية شاملة لتجديد الخطاب الدينى مصحوب بتطوير جذرى للتعليم الدينى، وبدون سياسة إعلامية واضحة تضبط أداء كل المؤسسات الإعلامية والصحفية، وبدون خطة حكومية لجذب الشباب بعيداً عن منابع التطرف الفكرى والدينى، وبدون بناء الشخصية المصرية الواعية بقدر مصر والتزاماتها التاريخية، يصبح موضوع مواجهة التطرف والإرهاب بلا معنى ومحدود التأثير.
المرحلة المقبلة من المواجهة سوف تتطلب تضحيات كبيرة، فإما مصر منتصرة على التخلف والتطرف والضرب بصحيح الدين عرض الحائط، وإما بلد مهزوم ومفكك يخضع لمن بيدهم مفاتيح الجماعات الإرهابية. ولا شىء فى الوسط بين الاحتمالين.