الأزهر والكنيسة روحانية فذة تليق بمصر، وعبير خاص ينبعث من سحر النيل، فهم شهود التاريخ، ومختصر المشهد القبطي (المصري) المتفرد، فالأقباط—مسلمين ومسيحيين، يجمعهم أب واحد وأم واحدة، ومصير واحد، دخلت المسيحية إلى مصر، فاعتنق جمهرة المصريين نقاءها وسماحتها ولم يمض غير قرنين من الزمان، حتى كانت دعوة الإسلام تطرق أبواب مصر، فإذا هي تطابق سماحة المسيحية وتجدد ماءها، فاعتنق كثير من أهل مصر الإسلام، الذي ربحوا به محمدا والمسيح معا، وعاش الإخوة في البيت الواحدة مسيحيين ومسلمين، فالمسيحيون هم في عين الحقيقة مسملون روحا ومعنى، ولونا وخلقا، والمسملون هم هم الأقباط أصالة وتاريخا ومجدا ونصا؛ ألم يفرد القرآن سورة لمريم لا لآمنة أو خديجة، ويمتدح عيسى وبشارته في مواضع كثيرة لا يحتاج القاريء إلى التنبيه عليها لفرط شهرتها، ثم تأسس الأزهر رمزا للعلم الديني والرقي الروحي فكان مع الكنيسة اختصارا لعبقرية المشهد المصري الفذ، الذي شق طريق التوحيد عبر حضارات متعددة، وهضم في مسيرته ثقافات شتى، فمن هنا انبثقت دعوة التوحيد الأولى، وإلى هنا لجأ إبراهيم بسارة، ومن هنا أخذ " هاجر" الأميرة الغالية التي نكبت بالخدمة لتكون زوجة الخليل والد النبيين، لتنجب إسماعيل وتصبح أم العروبة الرائدة، وليعود ابنها محمد ويتزوج بحفيدتها مارية، وينجب هذه المرة إبراهيم الحفيد الحبيب، الذي بكاه النبي، وليعود بنو إسماعيل إلى أرض أمهم هاجر، محررين لا فاتحين، وعاشقين لا غاصبين، وينتشي عصر الإيمان في مصر، حبا في المسيح ومحمد، وإذا بمصر مجتمعة على دين واحد، هو دين الحب، الذي مهد طريقه المسيح، ورسخ أعمدته وميز معالمه محمد..
ظلت هذه علامة مميزة لتاريخ المصري مع مصره عبر القرون، وتميز ترابط مصر برمزية الأزهر والكنيسة فيه، ففي كافة لحظات الحسم الوطنية، كان حضورهما حضورا لمصر وللمصريين، فعندما قاد الأزهري "سعد زغلول" الحركة الوطنية، وبعث الإصلاح الذي وضع بذرته محمد عبده أستاذه ثورة على الاحتلال، اعتقله الانجليز لتنفجر ثورة 1919، ويختار الأزهر موقعه منها فلا يليق به إلا أن يكون مهد الثورة، ورمز الوحدة، وملتقى الجماعة الوطنية، ومنبر الأقباط مسلمين ومسيحيين، فاعتلى المصري القمص مرقص سرجيوس منبر الأزهر وخلدت أقواله على منبر الأزهر في الضمير الوطني المصري: "إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية الأقباط فليمت القبط ويحيا المسلمون أحراراً" و "إذا احتاج الاستقلال استشهاد مليون قبطي فلا بأس من التضحية"، حتى إذا ما دخل العلامة الثوري الشيخ محمود أبو العيون سجون الانجليز، كان القمص سرجيوس في صحبته، كما خطب القمص بولس غبريال من منبر الأزهر؛ وكانت الكنائس، وخاصة الكنيسة المرقسية الكبرى، مشاعل حق لإذكاء الروح الوطنية، فاعتلى منابر الكنيسة العلامة الأصولي البارز الشيخ محمد عبد اللطيف دراز (وكيل الأزهر) ومن بعده اعتلاه العلامة الشيخ مصطفى القاياتي، فكان علماء الأزهر وبطاركة المسيحيين طليعة الثورة، ورمز الوحدة، وكتبة وثائق الاستقلال.
ومن هنا، فإن ألم الأزهر قيادة وعلماء وطلابا لما جرى من عدوان غاشم على الكنيسة المصرية، لا يقل أبدا بحال عن ألم الأزهر للعدوان الواقع على الجامع الأزهر نفسه، فهي إيذاء للمسلمين في شتَّى بقاع العالم، وإلى نبيِّ الإسلام ? في ذكراه، وهذا ما عبر عنه الإمام الأكبر في كلمته المصورة التي عزى فيها الشعب المصري؛ حيث قال: "شعب مصر العريق، أعزيكم وأعزي نفسي في أبنائنا وبناتنا وكل الأبرياء الذين اغتالتهم يد الغدر والخيانة... أعبر عن الألم الشديد الذي يعتصر قلوبنا جميعا نحن المصريين بسبب فقد هؤلاء الأحبة الأعزء... عزاؤنا أن هذا الدم البريء الذي سفك على أرض مصر اليوم لم يفرق فيه الإرهاب الأسود بين مسيحي ومسلم مما يؤكد على أن ما حدث لم يكن يستهدف فريقا دون آخر بقدر ما هو مخطط إجرامي مرسوم لضرب استقرار مصر و زعزعة أمنها وإشعال فتيل حرب أهلية بين الأقباط والمسلمين حتى يتم للمخربين وأعداء الحياة تنفيذ مخططتهم الغادر الأثيم.. وهيهات ثم هيهات أن يؤثر هذا المخطط اللعين ولو بمقدار شعرة في عزيمة مصر وصمود المصريين وتماسك وحدتهم الوطنية."
نعم إن جريمة القتل إيذاء لكل مسلم، وتعد صارخ على تعاليم النبي الخاتم، الذي صلى النصارى في مسجده الشريف، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة "صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفد نصارى نجران في مسجده وحانت صلاتهم فصلوا فيه، وذلك عام الوفود" (صـ140/دار الحديث/القاهرة)، وحكى ابن كثير في البداية والنهاية عن ما ذكره ابن إسحاق أنهم لما دخلوا المسجد النبوي دخلوا في تجمل وثياب حسان، وقد حانت صلاة العصر فقاموا يصلون إلى المشرق.. وهذه صلاة داخل مسجد النبي صلى الله عليه. ولا ريب أن تفجير الآمنين في صلواتهم من كبائر المنكرات، مخالف للهدي الشريف، وغدر بالعهد المنيف، حتى إنها لتوجب خصومة الله تعالى للعبد، وأي عقوبة أعظم من أن يكون خصيمك الله، فقد أخرج الإمام البخاري من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة..
رجل أعطى بي ثم غدر ..
ورجل باع حرا أكل ثمنه..
ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره"
ومهما تكاثرت أقوال المرجفين ودعوى المبطلين، ستبقى مؤسسة الأزهر وعلومها وقادتها وعلمائها مع روحانية الكنيسة المصرية ووطنيتها عنوانا عظيما وكبير وخالدا يليق بمصر العظيمة والكبيرة والخالدة.
د. محمد فوزي عبدالحي
كليات اللغات والترجمة. جامعة الأزهر