المصريون
حاتم إبراهيم سلامة
حينما نعيش كالعبيد ؟!
ما أقبح أن نعيش بين العبيد ونعاشر العبيد ونمشي بين العبيد ولا نتحدث إلا مع العبيد .. بل ما أقبح أن نكون أنفسنا عبيدًا لا يعرفون معنى الحرية ويرفضونها ولا يقبلون العيش في ظلالها ومعانيها.. فالحرية لديهم هي البلاء والشر الذي يخرجهم مما ألفوه وارتضوه وتكيفوا معه من سمات الذل والمهانة والحقارة .. فهم حقراء ولا يقبلون أن يعيشوا إلا حقراء.. قال لي محدثي يومًا : لو أن صدام حسين عامل شعبه بحرية ورباهم على الحرية لوجدة ساعة الشدة ووجده في مقاومة أمريكا ووجده سندا له في ساعة المحنة..! لكن بغداد سقطت في ساعات ..بعكس ما وجدنا في تركيا حينما قام انقلاب سافر دنيء على الرجل الذي عامل الشعب بحرية.. لقد خرج الشعب ونزل للشارع لا ليحمي حكومة أو حزبا أو زعيما وإنما ليحمي الحرية التي تذوقوا معانيها ورأوا كيف جلبت لهم النصر والظهر وجعلت بلدهم في مصاف الدول الراقية الناهضة..وهي أعظم نعم الحياة التي لا تعادلها كنوز الدنيا .
لا يمكن أبدا لظالم مستبد أن يربي شعبا حرا لأن الحرية هي عدوه الأول الذي يجب عليه اذا أراد استمرار حكمه أن يجتث جذورها ويقمع دعاتها لأنها التهديد الأكبر لغروره وسلطانه ولصوصيته..وحينما يقع هذا الطاغية وحكمه لتهديد خارجي ويأتي ليبحث عن شعبه، فإنه لا يجد شعبا وإنما يجد حفنة من العبيد الفارين الهاربين الذين لا يلبون دعوته للعزة والكرامة والثبات والنزال والصمود لأن هذه المعاني لا يتقنها إلا الأحرار أما العبيد فإنها ليست من سماتهم ولا صفاتهم فكل همهم أن يكون لهم سيد فوق رؤوسهم يأمر وينهى.. ويا حبذا لو كان هذا السيد طاغية جبارا يضربهم كل يوم بالجزم على رؤوسهم ، ويضع هاماتهم في الوحل والتراب وينكل بهم..فإنهم ساعتها يكونون في أمتع لحظاتهم التي ينتشون بها ويهيمون بشعورها..
عبد الناصر المريض عاش في حلم الثورة الواهم وحلم الزعيم الاوحد والمخلص الموعود وأعلن على الدنيا أنه قائد ثورة وقائد الشعب وأن صوت الجماهير يعلو على كل الاصوات ..يقول هذا ثم يقهر شعبة ويهين كبرياءه ويسلط على الناس مخابرات السافلان المنحطان الفاسقان الفاجران الكافران بكل قيم الانسانية والعدالة (صلاح نصر) و(شمس بدران) فشحنوا السجون بشباب الوطن وجلدوا الظهور وقتلوا الارواح واعتقلوا الابرياء وأذلوا شعبا بأكمله ليكون أهله عبيدا يسبحون بحمد سيدهم الطاغية ومريضهم الاكبر لعنة الله عليهم جميعا وعلى حكمهم المشؤوم الذي جلب لمصر الذل والهزيمة والعار في (67)..لقد كان هذا الطاغية الملعون أول من غرس العبودية في شعب مصر حتى تخرجت أجياله وهي أجيال مهزومة ذليلة لا تعرف كيف تعبر ولا تشارك أو تقول رأيا أو تتبنى فكرا.. لأن سوط الجلاد ينتظرها والمعتقل يرحب بها .. هذا الرجل المريض الذي افتعل تمثيلية المنشية وصاح بأعلى صوته في الميكروفون ليقول : (إن مات جمال فكلكم جمال.. أنا من علمتكم العزة.. أنا من علمتكم الكرامة) ..ووالله أيها الدعي السفيه لأنت من علمنا الذل والقهر والعبودية وجلب لنا الهوان والخذلان .. وكان من قدره السيء أن الاستاذ العقاد يستمع وقتها للراديو فقال لمن حوله حينما سمع هذه العبارة: (إن شعبا يسمع ماقاله هذا الفتى ولايقوم بشنقه بميدان عام لهو شعب يستحق ضرب النار.) لقد رأيت يوما رجلا يضع بيادة عسكرية فوق رأسه يترنح بها يمينا ويسارا مغنيا منتشيا مهللا سعيدا ..فقلت آسفا :يالضيعة الانسان وهوان الرجال..! يا حسرتاه على الكرامة التي جافت دواخلنا فصرنا عبيدا إلى حد سحيق.. إن أناسا أمثال هذا لا يمكن أن ينهض بهم وطن حر كريم شريف، أو يتلقاهم مستقبل مشرق واعد...لأنه أمثاله لا يستطيعون العيش الا في الوحل ولا يكبرون الا في الهوان فليفرحوا بما ارتضوا لأنفسهم.. وليمرحوا في هوانهم مسرورين وليضعوا فوق رؤسهم ألف بيادة وبيادة لأنهم في حقيقتهم عبيد مهزومين مخذولين..! إن جناية أي طاغية على شعبه هي أعمق جنياة على الوطن لانها جناية لا تتعلق بفتره حكمة وإنما تمتد آثارها أعوان وعقود وتصير علة وداء لا يستطيع الشع الفكاك منها إلا بمعجزة..!
لقد هرول والد عنترة وقومه يوما إليه يستنجدون بقوته لينقذهم من عار الهزيمة وبلاء العدوان فقال له أبوه: كر ياعنترة ..فما كان من عنترة إلا أن رد على والده فقال: إن العبد لايحسن الكر والفر وإنما يحسن الحليب والصر - فأدرك الاب خطأه بحق ابنه حينما حرمه من شرف الابوة واحترام الذات فبادر الاب الى تصحيح الخطأ وقال: كر وانت حر.. وعندما استعاد عنترة قيمة ذاته واحترامها كر وخاض المعركة برجولة وشرف وحقق النصر وصار بطلا يضرب به المثال .. ألا إن العبودية مرض كالسرطان لا علاج لها إلا باستئصال جيلها وتربية جيل آخر جديد يشب مع الحرية ويترعرع في ربوعها ليخرج عملاقا يناطح الدنيا ..وما كان ابدا لهؤلاء النفر من بني إسرائيل الذين تربوا عبيدا تحت قدم فرعون مصر بالذل والقهر والجلد والتعذيب أن يكونوا فرسانا أحرارا ينازلون أعداءهم بكرامه وصمود ..ما كان لهم ذلك لأنهم عاشوا عبيدا مذلولين مقهورين فلما طلب منهم موسى أن يقاتلوا رفضوا وهربوا وكفرا بما رأوا من آيات وقالوا لنبيهم اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ..حتى بعد أن مناهم صالحيهم بالنصر في قولهم : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) حتى وان كانت الوعود أكثر من ذلك فإنهم لن يتحركوا لأن أجسادهم أشربت دماء العبيد فصاروا عبيدا لا يصلحون لشيء إلا شيء واحد وهو أن يكونوا عبيدا أرقاء مذلولين..!
هل تعلم أن من أهم العناصر التي أهلت أمة العرب لحمل الرسالة أنها أمة حرة تربى أفرادها على معاني الإباء والشمم وتعلموا في قبائلهم معنى الحرية والعزة والكرامة.. لقد كانت العصبية لكرامة القبيلة والفخر بشرفها أسمى ما يملكه فلما أسلم تحولت هذه المفاهيم على ما زاد عليها الاسلام فأضحوا ثوارا على الظلم في كل مكان وزلزلوا العالم القديم وهدموا كل صروح البغي والطغيان ولم يتركوا قوة قاهرة في الارض إلا وركعت أمام ضرباتهم وعزتهم ورايتهم الخفاقة راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)
ولعلي هنا لا استطيع مزيدا من التعبير إلا أن أسوق للقاريء الكريم ما قاله أديب الاسلام العظيم ومفكره المهول الذي كان رمزا للحرية ومثالا للكرامة ودفع حياته ثمنا لهذه الكرامة وهذه الحرية.. (سيد قطب) رحمه الله أروع من وصف حال العبودية وحال العبيد حينما كتب : العبيد هم الذين يقفون بباب السادة يتزاحمون، وهم يرون بأعينهم كيف يركل السيد عبيده الأذلاء في الداخل بكعب حذائه، كيف يطردهم من خدمته دون إنذار أو إخطار كيف يطأطئون هامتهم له، فيصفع أقفيتهم باستهانه، ويأمر بألقائهم خارج الأعتاب، ولكنهم بعد هذا كله يظلون يتزاحمون على الابواب، يعرضون خدماتهم بدل الخدم المطرودين، وكلما أمعن السيد في احتقارهم زادوا تهافتاً كالذباب.
العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر، لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية لأن لهم حاسة سادسة أو سابعة.. حاسة الذل.. لابد لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد، أحست نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الاعتاب يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الاشارة من إصبع السيد ليخروا له ساجدين .
العبيد هم الذين إذا أُعتقوا وأُطلقوا، حَسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة، لا الأحرار المطلقي السراح، لأن الحرية تخيفهم، والكرامة تثقل كواهلهم، لأن حزام الخدمة في أوساطهم هو شارة الفخر التي يعتزون بها ولأن القصب الذي يرصع ثياب الخدمة هو أبهى الأزياء التي يتعشقونها.
وصدق الأديب الكبير في توصيف العبيد والعبودية .. فطول العهد بالعبودية يخلق إلفاً وحنيناً إليها فمن يرضع من لبانها لا يستطيع أن يعانق شمس الحرية، ولو أن الأغلال نزعت من عنقه هام على وجهه يبحث عن أغلال جديدة لأنه لا يعرف إلا حياة البهائم يتمتع ويأكل ويشرب ويجد من يسيره ويأمره مسلوب الارادة والحرية والقدرة والتفكير.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف