** يرتبط اسم المفكر المصري البارز "السيد ياسين" بمشروع فكري شديد التميز والمتأمل في مسيرته البحثية والفكرية يشهد له بالتفوق والتفرد. فقد انشغل الرجل كثيراً بقيم المعرفة والتنوير ولم يشغله من قريب أو بعيد مواصلة البحث عن الدرجات العلمية الرفيعة أو الوثوب إلي المناصب القيادية في الصحافة وقد كان أحد رموز مؤسسة الأهرام وحباه الله بقدرات فكرية وإدارية مبهرة وصدق أو لا تصدق انه سافر إلي باريس بمنتصف الستينيات لاستكمال دراساته العليا والحصول علي درجة الدكتوراة في القانون ولكنه قرر العودة إلي مصر فجأة بعد ثلاث سنوات من البحث والغوص في المراجع القانونية حيث اكتشف انه مهيئا لرسالة تفوق بكثير عمله بالقانون فقد كانت وحدة المعرفة الإنسانية لديه أساس مشروعه الفكري وفور عودته من باريس عام 1967 التحق للعمل بمركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية وعندما تولي رئاسة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام كانت الساحة السياسية بمنطقة الشرق الأوسط تعد لاستقبال تحولات كبري في الصراع العربي الاسرائيلي. الأمر الذي بدأ تحقيقه فعلياً علي الأرض بعد زيارة الرئيس الراحل أنور السادات للقدس عام 1977 ولم يكن أمام السيد ياسين ورفاقه في مراكز الدراسات سوي التجاوب مع توجه القيادة السياسية بالتطبيع مع الكيان الصهيوني أو الحفاظ علي استقلالية المركز في مواجهة ضغوط سيادية متواصلة لتحويله إلي مجرد مؤسسة بحثية تسهم في تشكيل رأي عام مؤيد لقرار القيادة السياسية ومن ثم كانت الخيارات المطروحة أمام الباحثين والخبراء بالمركز تنحصر في أمرين لا ثالث لهما. أولهما القبول بإبداء المرونة المطلوبة ولو جزئياً وثانيهما وهو الحل المر والاستقالة والنزوح إلي بلاد أخري قد توفر حماية أكبر وحرية أوسع للمركز وباحثيه وكان القول الفصل لمدير المركز العلامة السيد ياسين.
** لم يتردد المفكر النبيل في اتخاذ قراره المصيري حيث طالب الجميع بتحمل مسئولية البحث العلمي واستقلالية الفكر قائلاً: "ان البقاء في مصر فريضة واستقلال المركز خط أحمر لا يمكن تجاوزه تحت أي ظرف" وكان طبيعياً أن يوازن الرجل بين استقلالية المركز من ناحية والقيام بدوره المنشود في التمسك بالثوابت القومية والوطنية من ناحية أخري وكم نجح العلامة السيد ياسين في مهمته وكان نموذجاً للمفكر النبيل في علاقته بالسلطة حيث مضي في مشروعه الفكري في هدوء ولم يضبط يوماً متلبساً بنفاق السلطة أو التزلف لها وفي منتصف الثمانينيات استطاع السيد ياسين وبعد حوارات متنوعة تدشين العمل في التقرير الاستراتيجي العربي والذي مازال يصدر سنوياً بلا انقطاع بنفس الروح ونفس الالتزام بعروبة مصر واستقلال قرارها السياسي رغم تعدد الأجيال التي تقوم علي إعداده.
* كان السيد ياسين نموذجاً للمفكر الذي يعاني من الغربة في مجتمع تسوده ظواهر الأمية بتجلياتها المتدرجة الهجائية والتعليمية والثقافية بحسب تعبير الدكتور سليمان عبدالمنعم نتيجة للفجوة القائمة بين المفكر والمجتمع في بلادنا والتي تزداد اتساعا يوما بعد يوم بين مفكرين ومثقفين كرسوا حياتهم من أجل قضايا أمتهم ومجتمعاتهم وبين جماهير لا تكاد تشعر بهم أو تعرف أسماءهم وهي ظواهر لا يمكن فصلها عن حقائق الفقر والجهل والفساد والمعاناة المعيشية في ظل المؤامرات التي تستهدف أمن واستقرار البلاد.
* آخر الكلام:
عاش السيد ياسين محمد "84 عاما" منذ خروجه للحياة بالإسكندرية يوم الثلاثين من أكتوبر عام 1933 وحتي وافته المنية يوم التاسع عشر من مارس الماضي وما بين مولده ورحيله حصل علي ليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية وبدأ حياته العلمية باحثاً في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وبامتداد مسيرته الفكرية والبحثية الثرية أصبح السيد ياسين أحد أبرز علماء الاجتماع القانوني والسياسي في تاريخ مصر المعاصر وارتبط اسمه بأربعين مؤلفاً تؤكد علي ثقافته الموسوعية الجامعة ما بين علوم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس والأدب والقانون الجنائي وان كان طبيعياً أن تكرمه مصر بمنحه وسام العلوم والفنون والآداب بمنتصف التسعينيات قبل حصوله علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية.