عائشة عبد الغفار
الحملة الانتخابية الفرنسية وأزمة الثقافة
رئيس فرنسا القادم سوف يكون المرشح الأكثر ثقافة! لاشك أن الحملة الانتخابية الفرنسية هى أول حملة منذ بدايات الجمهورية الفرنسية لم تتعرض بجدية للقضايا الثقافية وبدون أن تجمع لجان المساندة من قبل الفنانين والموسيقيين ليناشدوا المواطنين بأن ينتخبوا مرشحا دون آخر ودون أن يعرب أحد المرشحين الأهمية التى سوف يليها للثقافة والتى كانت دائما محور اهتمام فرنسا أم الفنون والآداب.. ويبدو أن زمن العراك حول التصميم الهندسى لمتحف أو مضمون مكتبة أو مناقشة مكانة الفن المعاصر أو وصول الفن السابع أو الموسيقى إلى الانترنت قد انتهي.. بالطبع أن المرشحين قد تعرضوا عابرا للبرنامج الثقافى بدرجات مختلفة وتحدثوا عن التعليم الفنى وعدم انتظام عروض المسرح وساعات افتتاح المكاتب كما تحدث بعضهم بدون حماس عن مستقبل الفرانكوفونية.. الخ..
وإنما لم يضع أى مرشح قضية الثقافة فى محور برنامجه أو طلب علنا بأهمية الاصلاح الجوهرى فى هذا المجال كما لو كانت الثقافة قضية ثنائية وحلت محلها النقاش حول وسائل التسلية! ولذلك فمعظم الفنانين والمبدعين لم يلتزموا بأى من المرشحين الذين لم يبذلوا جهدا فى الحصول على أصواتهم لأن الرأى العام لم يعد مهتما بالفنانين لأنه يعتبرهم من قشيرة المواطنين الذين يتمتعون بامتيازات غير شرعية.
ويرى المراقبون فى فرنسا أن قضايا جوهرية كانت من الممكن ان تعود بالفرنسيين إلى الثقافة ومن أهمها تعزيز وسائل تعليم اللغة الفرنسية للأجانب وتغذية الثقافات التى اجتاحت فرنسا بالثقافة الفرنسية وإن ذلك يتطلب حب معرفة الآخرين وتقديم فكرة واضحة عن فرنسا وعطائها للعالم.
ويقول «جاك آتالي» المفكر الفرنسي. إن الأمم تتغذى من المجادلات الثقافية الكبيرة وتموت عندما تندثر المجادلات وشحذ الأفكار وعندما يكتفى كل مواطن بوسائل اللهو والتسلية الانعزالية ـ إن هذه الظواهر تتعرض لها الدول المتطورة التى تثاقلت بوزن ميراثها ولذلك يطالب مثقفو فرنسا حاليا بالبحث عن الخلق الجماعى وبذل الجهد المطلوب والإقدام على المشاركة الحقيقية بدلا من اليأس والابتعاد عن الصناديق الانتخابية.
إن الثقافة كانت دائما حصان طروادة لدفع الشعب الفرنسى إلى الأمام.. فعدد هائل من رؤساء فرنسا وقادتها السابقين كانوا مولعين بالكتب النفيسة والنادرة مثل فرنسوا ميتران وساركوزى وجيسكار ديستان وجاك شيراك.. ساركوزى مازال يحتفظ بخطاب للملك هنرى الرابع لزوجته الايطالية «مارى دى ميديسيس» وخطاب آخر «للينين» كتبه عام 1917 وقصيدة للشاعر بريفير وخطاب للكاتب «سيلين» وطبعة نادرة من مؤلفات «ألبير كامي»..
إن رجالات السياسة فى فرنسا كانوا يعشقون الكتب النادرة لأن ذلك يشعرهم بأن لديهم اتصالا حيويا بكبار رجالات الوطن..
كما أن نواب ووزراء الجمهورية الثالثة كانوا يترددون على مكتبة شهيرة بساحة فيرتسنبرج بباريس المكان المفضل لجاكلين كيندي، حيث كان «ليون بلوم» يشترى مخطوطات بيد الأديب مارسيل بروست. تصوروا أن فرنسوا ميتران ظل نصف قرن كاملا من هواة التجول فى مكاتب سانت سيبليس ـ الذى كتب عنها فى عصر سابق الكاتب «هيمنجواي» فى مذكراته «باريس هى حفلة» ولم يتردد الرئيس الاشتراكى فى شراء طبعة أصلية لرواية العلاقات الخطيرة للكاتب «كوبير لو دى لاكلو» بحوالى 60 ألف فرانك آنذاك!
كانت الطبقة السياسية فيما مضى تهتم بالتجول بصالون الكتاب بفرنسا فى حين أن مرشحى الرئاسة فى عام 2017 يهتمون بشراء البدل والمعاطف بدلا من الكتب! وترى النخبة الفرنسية أن الثقافة غائبة فى الحملة الفرنسية وإن هذا الوضع مأساوى لأن بالثقافة وحدها يمكن انقاذ الأوطان والأمم! ومن الممكن اقتراح كافة البرامج السياسية والاقتصادية والمتعلقة بالميزانية ولكن لن ينفع ذلك فى تعبئة الطاقات الايجابية.. ويرى المفكرون الفرنسيون أنه لابد أن يفهم المجتمع الفرنسى الدور الذى تلعبه الثقافة فى تاريخ فرنسا فى فترات ومراحل الأزمات. وفى تصورى أن رئيس جمهورية فرنسا القادم سوف يكون المرشح الذى يتمتع بأكبر قدر من الثقافة أو على الأقل الثقافة السياسية والتاريخية والمجتمعية!