الوطن
رفعت السعيد
د. زقزوق وأزمة الفكر الإسلامى (2-4)
عن التجديد والاجتهاد والإفتاء

.. ويأبى د. محمود زقزوق إلا أن يرفع سبابته فى وجوهنا جميعاً قائلاً «نعيش فى عصر الاجترار الثقافى، والاجترار هو إعادة الكلام مراراً من غير الإتيان بشىء جديد». ويحذرنا من أن الحقيقة المريرة هى أن حتى أغلب الدراسات الأكاديمية ورسائل الدكتوراه يغلب عليها الاجترار لما سبق من دراسات وكتب تراثية.. وتخلو من أى إضافة ذات قيمة معرفية جديدة. ثم هو يحيلنا إلى الأستاذ الإمام محمد عبده الذى يقول «التقليد ضلال يُعذر فيه الحيوان لكنه لا يصح من الإنسان القادر على التفكير والتمييز فهو إلغاء للعقل وقضاء على شخصية الفرد وكبت لقدراته وامتهان لكرامته». وقد انتقد محمد عبده فقهاء عصره قائلاً «جعل الفقهاء كتبهم على علاتها أساس الدين، ولم يخجلوا من قولهم إنه يجب العمل بما فيها فانصرفت الأذهان عن القرآن والحديث وانحصرت أنظارهم فى كتب الفقهاء على ما فيها من الاختلال والركاكة». ثم يضرب لنا مثالاً من قضايانا المعاصرة وهو قضية اشتغال المرأة بالقضاء فقد رفضها البعض دون أى دراسة لواقعنا الراهن وما وصلت إليه المرأة من علم ومعرفة فى كل التخصصات العلمية والخبرات الحياتية، وتركوا ذلك واكتفوا بما أتى فى كتب القدماء التى كتبت منذ أكثر من ألف عام، وكان صراع مرير لا علاقة للإسلام به كدين وإنما هو صراع بين عقل منفتح على ضرورة التجديد وحتمية التجاوب مع العصر وهو ما يمليه العقل السليم وصحيح الدين وما يتفق مع التزامنا بالتجديد، ذلك أن النصوص التى يرجع إليها الفقهاء المعاصرون محدودة، لكن وقائع الحياة ومستجدات كل عصر لا تنتهى، ومن ثم فإن إنزال النصوص القديمة على وقائع الحياة المعاصرة يتطلب عقلاً راجحاً وأفقاً واسعاً وفقهاً واعياً.

ثم ينقل لنا المؤلف رأياً للمفكر الإسلامى المجدد محمد إقبال يصف فيه الاجتهاد بأنه مبدأ الحركة فى الإسلام، وتشجيعاً من الإسلام للاجتهاد قرر الرسول الكريم أن المجتهد إذا أخطأ له أجر وإن أصاب له أجران. (ص36).

ثم ينتقل بنا د. زقزوق إلى الفتوى باعتبارها من أبواب الاجتهاد فيقول «نحن نعلم أن الإمام الشافعى عندما جاء إلى مصر بدأ يعيد النظر فى الآراء والفتاوى التى قالها عندما كان بالعراق لأن الفتوى يجب أن تراعى أعراف كل قطر من الأقطار»، يقول ابن القيم فى كتابه «أعلام الموقعين»: «من أفتى الناس بمجرد النقل من الكتب على اختلاف أعرافهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين»، ثم هو يأتينا بقول آخر للإمام القرافى فى كتابه «الإحكام فى تمييز الفتاوى عن الأحكام»: «ينبغى للمفتى إذا ورد عليه مستفتٍ ألا يفتيه بما عادته أن يفتى به حتى يسأله عن بلده، وهل حدث لهم عرف فى ذلك أم لا». ويمضى د. زقزوق قائلاً «لكننا للأسف تركنا -الآن- الاجتهاد ولجأنا إلى التقليد، وكثيراً ما نجد فقهاء اليوم يبحثون عن حل شرعى لمشكلة جديدة لدى بعض المذاهب الفقهية القديمة وفى بطون كتب جرى تأليفها فى عصور التراجع الحضارى، وأحدث الأمثلة على ذلك قضية الطلاق الشفوى وهل يقع أم لا بد من الإشهاد والتوثيق، وانتصرت الأغلبية لوقوع الطلاق الشفوى بمجرد النطق به، ومنذ أكثر من قرن من الزمان عاب الشيخ محمد عبده على هذا المسلك وتمسك أصحابه به دون مراعاة المشكلات الكثيرة التى تترتب على ذلك من هدم الأسرة وتشريد الأطفال وضياع الحقوق، ويمضى ليصف بعض الفتاوى المعاصرة التى تتطلب منا أن نلغى عقولنا تماماً وأن نلغى وظيفتها فى التفكير. ثم يقول «الأمر الذى لا شك فيه أن آراء الفقهاء السابقين كانت وستظل مجرد اجتهادات تخطئ وتصيب، وكلهم أكدوا أن ما يقولونه ليس الحق المطلق فقد تخطئ وقد تصيب». ثم ينتقل بنا د.زقزوق إلى قضية أكثر خطراً وتحولت إلى أمر شائك ولم تزل، وهى قضية ختان الإناث ويقول «إنه مجرد عادة وليس عبادة وأن ما ورد بشأنه من أحاديث كلها ضعيف لا تقيم حجة ولا يعتد بها، ولكن أحد الشيوخ الأجلاء عندما بحث هذه القضية اكتفى بالبحث فيما قاله الأقدمون وانتهى فى ختام بحثه إلى نتيجة مروعة مردداً ما ذهب إليه أصحاب المذاهب الفقهية فقال لو اتفق أهل بلد على عدم ختان الإناث فعلى الإمام أن يقاتلهم على ذلك». ويقول د.زقزوق إنه تحدث شخصياً مع شيخنا الجليل (رحمه الله) عن ضرورة الاجتهاد وعدم الوقوف عند ما قاله السابقون فكان رده «عندما نكون مثلهم فى علمهم يحق لنا الاجتهاد وهذا أمر غير قائم فى عصرنا».. ولم يشأ د. زقزوق أن يرد بنفسه على هذا المنطق وإنما ترك الرد إلى ما قاله الأستاذ الإمام محمد عبده «إن السبق فى الزمان ليس آية من آيات العرفان ولا معلياً لعقول على عقول، فالسابق واللاحق يستويان فى التمييز والفطرة وهناك إمكانات متوافرة أمام اللاحق لم تكن متاحة لمن سبقهم، فاللاحق له من علم الأحوال الماضية ثم ينتفع بما لم يكن للقدامى من معارف». أما عن موقفه هو فإن الدكتور زقزوق يقول باعتزاز «إن الاجتهاد فى عصرنا الحاضر هو الفريضة الغائبة، وممارسة الاجتهاد أصبحت فرض عين على كل من لديه المؤهلات لذلك، ولدينا الكثير من الفقهاء المؤهلين ولكنهم بحاجة إلى الشجاعة». وأضيف من عندى إذا أذن لى د.زقزوق أنهم قد يحتاجون أيضاً إلى شجاعة مواجهة شيوخ لا يرحمون فى خصومتهم فيملأون الدنيا ضجيجاً ويثيرون الرأى العام ويحرضون.. فيظل البعض وهم يعرفون الحق ولكن يرددون لأنفسهم بيت شعر يقول:

{مت بداء الصمت خير من كلام.. إنما العاقل من ألجم فاه بلجام}.

.. وأعتذر مرة أخرى لأستاذنا د.محمود زقزوق.. وأواصل لأنعم بإبداعاته الفقهية ومعالجاته لقضايانا المعاصرة محاولاً أن أشرك القارئ معى فى هذه المتعة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف