الوفد
الأب بطرس دانيال
«الموت يزول»
بينما نحن نستعد للاحتفال بعيد القيامة المجيد مبتدئين بأسبوع الآلام، نرى شهداءً داخل كنيسة مار جرجس بطنطا والمرقسية بالإسكندرية لا ذنب اقترفوه سوى أنهم يصلّون ويحبّون، وسلاحهم الوحيد هو أنهم بدون سلاح. كيف نستعد إذاً للاحتفال بعيد القيامة المجيد؟ كيف نستمر فى فرحتنا ونُهلل معاً: «المسيح قام، حقا قام»؟ نسمع كلمات بولس الرسول: «قد ابتلعَ الموتُ فى النصر! فأين يا موت، شوكتك؟ وأين يا موت نَصرُك؟ وشوكة الموت إنما هى الخطيئة.. فالحمد لله الذى أتانا الانتصار على يد ربنا يسوع المسيح» (الأولى من كورنثوس 15: 54-57). فماذا تعنى لنا قيامة السيد المسيح؟ كيف نحياها فى ظل هذه الظروف؟ عندما نحتفل بعيد القيامة، نحن نحتفل بميلاد العالم الجديد: «هذا هو اليوم الذى صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل فيه» (مزمور 117)، هذا اليوم يختلف تماماً عن الأيام التى نصنعها بأيدينا، نحن نخترع أيام الخيانة والهروب والنكران والحقد والقتل والتدمير، لكن ذلك اليوم الذى يأتينا من الله هو يوم جديد، يوم ميلاد الخليقة الجديدة، فإذا صنعنا أيام الظلام، فالله يمنحنا النور الذى يبدد هذا الظلام، إذا بحثنا عن الموت أو نخاف منه أو نتجاهله أحياناً كثيرة، فالله يهدينا الحياة التى لا تنتهى أبداً ولا يستطيع أحد أن ينزعها منّا، إذا تخصص أشخاص فى صنع المصائب والدمار، لكن الله يُصلح كل شىء فى حياتنا، وإذا تفننا فى طرق البغض والكراهية، إلا أنه يمنحنا الحُب الحقيقى والغفران الذى لا نهاية له. لذا يجب علينا فى هذه المناسبة السعيدة بعيد القيامة المجيد أن نهدم كل جسور العالم القديم المبنيّة على الحقد والغل والظلام والانقسام ونحل محلّها جسور المحبة والمودّة والسلام. فالقيامة بالنسبة لنا هى عبور من الجسد الأرضى إلى اللقاء السماوى، ومهما حلّ بنا، فليكن لنا ثقة فى وعود الله وعزائه، وإن ما نتحمّله فى هذه الدنيا من مشقات، وما نعانيه من آلام مبرِّحة، لن يدوم، لأن ذلك النهار لن يعقبه ليل على غرار أيام هذه الدنيا، بل نورٌ لا يزول، وضياءٌ لاحد له، وسلامٌ راسخٌ وراحةٌ فى آمان... لنتخيّل جميعاً ونحن نحتفل بعيد القيامة المجيد هؤلاء الشهداء الذين رحلوا عن عالمنا بسبب أيادى الغدر والتدمير وما نالوه من أكاليلٍ خالدة فى السماء، وكم هم يتهللون الآن ويفرحون بالملكوت السماوى. أَمَا ينبغى لنا أن نحتمل جميع المشقّات فى سبيل حياة وقيامة أبدية؟ هؤلاء جاهدوا فى الدنيا جهاداً مريراً، وهُم الآن يفرحون، وهُم الآن يُعَزَّون، والآن هم فى مأمن يستقرّون فيه ويستريحون، ومع الله فى ملكوتٍ أبد الدهر يُقيمون.
وكما يردد داود النبى فى المزمور: «لذلك فَرِح قلبى وتهلل لسانى حتى إن جسدى سيرقد على رجاءٍ، لأنك لن تترك نفسى فى هوّة الأموات ولن تدع وحيدك القدّوس ينال منه الفساد» (مز 16: 9 -10). يا لضياء نهار الأبدية الذى لا يحجبه ليل! بل تضيئه أشعة الحق الأسمى، هذا النهار هو نهارٌ دائم الفرح، دائم الأمان، لا تؤثّر عليه تقلبات هذا الدهر، حوّل السيد المسيح هذا الموت إلى نُعاسٍ قليل ومنه إلى حياةٍ أبدية، لأن أساس إيماننا هو الرجاء بأن كل تجربة ومحنة تؤول إلى نعمة، كل حزن إلى فرح، كل موت إلى قيامة، حتى الخطيئة إلى غفران من الله المُحِب والرحيم. إذا كان الموت هو الحدث الذى لا مفر منه لجميع البشر، وسنمر به جميعاً، هل نستطيع أن نستعد له بنفس درجة استعداد والِدَيْنا للحظة ولادتنا؟ من الضرورى أن الموت يعطى قيمة للحياة ويوجهها ويضمن لها حقيقتها. لكن مَنْ لا يحيا هذه الحياة باستعدادٍ كافٍ ستكون حياته ناقصة.
نحن نعيش تحت وطأة الحجر الذى يغلق القبر علينا ونيأس من الخروج من هذا الظلام، ويحيا البعض منّا هذه الحياة وكأنه مات ولا يفكّر أبداً فى لحظة القيامة من الموت الأرضى، لذا يجب علينا أن نرفع هذا الحجر لكى نحيا القيامة بروح جديدة ونزيل عنّا حجر همومنا وحزننا ويأسنا ونحوّل هذا كلّه إلى نورِ وفرحٍ وقيامة، ويقول الكتاب المقدس: «الموت يزول» (إش 8:25).
نحن فى هذه الدنيا نواجه مخاوف متواترة تُكبّلنا، وهموماً غزيرة تتنازعنا، ومتاعب كثيرة تَهُدُّنا، وتجارب تثقلنا، ولكن من يصبر ويتحمّل سينال اللقاء الذى فيه سلام راسخ، سلام آمن لا يتزعزع، سلام ثابت. فطوبى لمن تظل ساعة الموت ماثلة أمام عينيه ويستعدُّ كل يوم للقيامة الحقيقية، إذا رأينا أحد الأشخاص يموت، فلنذكر أننا سنعبر أيضاً الطريق نفسها، لنجتهد فى أن نعيش الآن حياةً تجعلنا ساعة الموت، فرحين لا جَزِعين، مطمئنين لا مضطربين، واثقين لا متزعزعين، لذلك نعتبر أنفسنا سائحين غرباء على وجه الأرض ولنحفظ قلبنا حرّاً مرتفعاً إلى الله، وكما نقرأ فى الرسالةِ إلى العبرانيين: «لأنه ليس لنا هنا مدينة باقية» (14:13).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف