جمال سلطان
مأساة "آية حجازي" .. وحظ "علي محمود" !
احتاج الأمر إلى أكثر من ثلاث سنوات سجنت مصر فيها مواطنين أبرياء وجهت إليهم الجهات الأمنية تهما مشينة وبشعة ، قبل أن يكشف القضاء أن التهم المنسوبة إليهم هراء وأباطيل ، ثلاث سنوات نزيف العمر لحوالي عشرة شبان ومن ضمنهم الناشطة "آية حجازي" ، ثلاث سنوات أيضا من نزيف السمعة والكرامة لمصر ونظامها السياسي على الصعيد العالمي ، حتى بين أصدقاء السيسي نفسه في واشنطن ، ثلاث سنوات من العناد والمكابرة والتخبط والمهانة الإعلامية والفشل السياسي المزمن ، تنتهي في الأخير إلى إطلاق سراح هؤلاء الضحايا ، دون أن يسأل سائل عمن يعوض هؤلاء الأبرياء عن سنوات العمر الضائعة خلف الزنازين أو في أقبية السجون ، أو من يحاسب على تشويه سمعة مصر دوليا ووصمها بأنها الدولة التي تنتهك حقوق الإنسان على نطاق واسع .
آية حجازي كانت قد أسست جمعية صغيرة ناشئة لرعاية أطفال الشوارع ، بعد أن انتشرت تلك الظاهرة بقوة وجذبت انتباه الرأي العام والإعلام المصري ، حاولت أن تؤسس لمشروع يحتوي أطفال الشوارع ويعيد تأهيلهم بما يجعلهم مواطنين صالحين ويغير وجهتهم من الانحراف والسقوط في قبضة البلطجية وتجار المخدرات وشبكات التسول والابتزاز الجنسي للأطفال إلى التعليم والحياة الصحية الآمنة ، كانت مشكلة "آية" الوحيدة أنها من شباب ثورة يناير المغضوب عليهم بعد 3 يوليو ، وكانت هناك موجة من العنف السياسي والإعلامي الواضحة تجاههم رغبة في إخماد طموحهم وكسر إرادتهم وفرض الإحباط السياسي عليهم لطي صفحة ثورة يناير وتجاوز أحلامها ، فتم اقتحام الشقة التي توجد فيها الجمعية في وسط القاهرة ، والقبض على آية حجازي وزوجها وآخرين ، حيث وجهت لهم وزارة الداخلية تهمة " تأسيس جماعة إجرامية لأغراض الاتجار بالبشر، والاستغلال الجنسي لأطفال وهتك عرضهم" ، أي والله ، هكذا كانت التهمة ، غير أن مذكرة الاتهام ضمت إلى "الاستغلال الجنسي" الاستغلال السياسي أيضا ، حيث قالت أنهم استخدموا الأطفال للمشاركة في المظاهرات مقابل بعض المال ، ولا تحاول أن تستحضر أي منطق في خيالك للجمع بين الاستغلال الجنسي والاستغلال السياسي للأطفال .
قضية آية حجازي لم تقنع أحدا ، لا في مصر ولا خارجها ، وأثارت غضبا واسعا ، خاصة وأن آية تحمل الجنسية الأمريكية ، وواجهت المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون الرئيس السيسي مباشرة بطلب الإفراج عنها ، كما كرر البيت الأبيض الطلب من السلطات المصرية الإفراج عنها ، بطبيعة الحال ليس دعما من أمريكا للاستغلال الجنسي للأطفال والاتجار في البشر !! ، وإنما إدراكا من العالم بأن ما يجري مهزلة ، وظل العناد هو المسيطر على السلطات المصرية ، حتى بعد أن أتمت آية حجازي أقصى مدة للحبس الاحتياطي ، عامين ، ثم في النهاية حكمت المحكمة ببراءتها وزوجها وجميع من معهم من الاتهامات التي وجهتها لهم مذكرة وزارة الداخلية ، وأكدت أن كل ما قالته السلطات الأمنية عن "آية" ومن معها محض هراء وأكاذيب .
المواطن المصري "علي محمود محمد حسن" ، ابن قنا ، والذي وجد صورته منشورة في الصحف بوصفه المتهم بتفجير كنيسة مار مرقص في الاسكندرية ، كان أحسن حالا من "آية" ، إذ أنه فور علمه بذلك ذهب من تلقاء نفسه إلى النيابة بالبحر الأحمر ـ حيث يقيم ـ وسلم نفسه ، وحكى لهم سيرته الكاملة وأتى بالشهود من زملاء العمل وشهادة الأطباء أنه لا يستطيع أن يصعد حتى سلم بسبب عملية بالقلب وأنه لا صلة له من قريب أو بعيد بتطرف ولا إرهاب ولا جماعات ، كانت الصورة واضحة ، فقررت النيابة إخلاء سبيله فورا ، رغم أن الداخلية رصدت مكافأة مقدارها مائة ألف جنيه لمن يرشد إليه بوصفه إرهابيا خطيرا ، وتخيلوا معي لو أن الداخلية وصلت إلى "علي محمود" قبل أن يسلم نفسه ، ماذا كان مصيره ، ربما منصة الإعدام ، وناهيك عن أن حظه كان أفضل من غيره من الذين تمت تصفيتهم بالرصاص في حملات أمنية بوصفهم متهمين أو مشتبها بهم في جرائم إرهابية ، قبل أي تحقيقات أو قضاء أو نيابة ، انتهى أمرهم ، وتم دفنهم ، وأصبحوا نسيا منسيا .
منظومة العدالة في مصر مختلة ، والعدل غائب ، والقانون لا يحمي الضحايا ، ولا يعوض المواطن الذي تحول إلى "ملطشة" لتقارير أمنية مفبركة أو ضعيفة أو متعجلة أو "تأدية واجب" ، وأخطر من كل ذلك أن يتسلل الإحساس إلى المواطن بأنه لا يتعامل مع "دولة" ، هذا هو الأخطر .