المصريون
حاتم إبراهيم سلامة
الأتراك يصححون مسار التصوف
يمثل مسلسل قيامة أرطغرل ثورة كبيرة قدمتها الدراما التركية حيث بلغت نسبة المشاهدة حسب آخر الاحصاءات لآخر حلقة إلى مليار مشاهد ..وهو رقم جسور لعمل رائع حافل بكثير من القيم والمعالم والمعاني والاشارات الهامة التي تهدف إلى تصحيح المفاهيم وتصويب التاريخ والحفاظ على الهوية والاعتزاز بالانتماء الاسلامي والتنويه بالمخاطر والمؤامرات التي تحيط بالأمة ومشروعاتها النهضوية المستقبلية..لقد جذب المسلسل عشرات الملايين وتحدث عنه العالم، وشغف برؤيته الكبار و الصغار، واستطاعت تركيا من خلاله أن تغزو الاعلام وتسخره لخدمة طريقها وهدفها وحزبها وتوجهها وتراثها وانتمائها الاسلامي المتصاعد ، وبجانب تصويرهم للحلم الاسلامي وما يكتنفه من عقبات وطموحات ومؤامرات وانتصارات .. كان بجوار ذلك كله تصحيح لكثير من المفاهيم والأفكار والحقائق التاريخية التي أصابها العوج والتلفيق وشابها الانحراف في الرؤية والتصور فخرجت بها عن حقيقتها وأصلها إلى أوهام مغلوطة وأفهام منحرفة..ولعل أبرز هذه الأفكار والمفاهيم التي يقوم المسلسل بتصحيحيها نظرته هي للتصوف الإسلامي الذي تم تشويه حقيقته وتزييف طبيعته وطرائقه وأصوله التي قامت على الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى النضال والكفاح وقيادة المقاومة المسحلة ضد الأعداء والغزاة ..هذه الحقائق الأصيلة في تاريخ التصوف والتي استطاع الاستعمار وأذنابه والمستبدين وذيولهم ،أن يبدلوها ويطمسوها حتى لا يوجد هذا النوع من الجهاد ولا يوجد هذا النوع من المجاهدين الذين هم أخطر أنواع وأصناف المجاهدين لأنهم باعوا الدنيا وزهدوا في متعتها وصارت قلوبهم لا يتربع عليها الا حب الله وحده ..لقد استطاع الحاقدون أو يلغوا هذه الحقيقة وينشئوا تصوفًا جديدًا غريبا جبانًا منبطحا سلبيا ذليلا لا يعرف معنى الجهاد والنضال والكفاح ويرفض كل ألوان المقاومة ويعتبرها إرهابا ليس من الدين وينظر للعمل السياسي الاسلامي على أنه تعلق بالدنيا ولهثًا وراء السلطة فشجعوا البدع والخرافات ودعموا البُله والمشعوذين وروجوا للخزعبلات والشطحات وأقاموا الموالد وأنفقوا عليها حتى تطغى هذه الصورة المنكرة في عالم التصوف على الحقيقة الأبية التي حفر التاريخ قصتها الناصعة في سجلاته..!
ثم انظر وتأمل كيف وصل الحال ببعض هذه الطرق الصوفية في بلاد المغرب العربي حين خرج أقطابها وأفتوا بأن حرب الاستعمار حرام شرعا لأن الاحتلال قدر الله ومحاربة القدر غير مقبولة ..! وهكذا يخرج هذا الفكر المنبطح السلبي الذليل المجرد من الكرامة والعزة والمروءة لتبلغ به الوقاحة والعمالة أن يُفتي بحرمة كفاح ومقاومة المستعمرين.!
يتي هذا الفهم الجديد للتصوف ليعد شيئًا صادمًا على خلاف ما عرف عنه من حمل راية الكفاح والنضال ضد الغاصبين المحتلين عقودا طويلة وفي بلدان عديدة، ولو أننا تقصينا وتتبعنا تاريخ التصوف وحركاته ودورها في الجهاد الإسلامي لتأكد لنا هذا المعنى بجلاء ووضوح فالسنوسية التي حمت الشمال الإفريقي من المستعمرين مدة خمسة قرون كانت حركة صوفية نشأت وترعرعت في ليبيا ومن أبنائها كان الأسد الهصور عمر المختار رضي الله عنه الذي أقض مضاجع الاستعمار الايطالي، وببد شملهم وأجهد طاقتهم حتى نال الشهادة مجاهدا أبيا عزيزًا وكذلك الشيخ شامل النقشبندي الذي دوخ روسيا القيصرية ،ومحمد بن عبدالله حسن شيخ الطريقة الصالحيَّة الشاذلية و«قائد جيش الدراويش»: الذي حارب الطليان والانجليز قرابة عشرين عامًا حينما بدأوا يبشرون بالمسيحية ، فأعلن الجهاد عام 1899، وبدأت أولى معاركه مع القوات البريطانية وهزمها عدَّة هزائم، مما جعل بريطانيا تجنح للسلم واتفاقية لوقف إطلاق النار عام 1905 استمرت سنتين، ولم تفز بريطانيا بأية معركة منذ 1901 وحتى 1905، وكانوا يلقبونه يلقبه بـ «الملا المجنون» وكان جيشه معروفا باسم «جيش الدروايش» وكذلك دولته: «دولة الدراويش».
وهناك يحيى بن عمر مؤسس دولة المرابطين وابن عم القائد البطل يوسف بن تاشفين ..كما كانت الطرق الصوفية الجهادية هي النواة الأولى التي تأسست منها جيوش العثمانيين الذين احترفوا القتال مربوطا بذكر الله والروح الصوفية الفدائية فانطلقوا من بؤرتهم الضيقة إلى آفاق الدنيا يهددون العالم كله.
وكان في السودان حركة المهدي التي هدمت كبرياء انجلترا وهزمتها في مواقع كثيرة , وكان هناك الأمير عبد القادر الجزائريّ الذي قاوم الاستعمار الفرنسي في الجزائر طيلة 17 عامًا، والأمير عبد الكريم الخطابي أمير دولة الريف بالمغرب الذي قاوم الاستعمار الفرنسي والإسباني ، وهناك الكثير من شيوخ المجاهدين كالأمير عثمان بن فوديو والشيخ ماء العينين الذي قاوم الاستعمار في موريتانيا، كلهم كانوا صوفية يقوم منهجهم على الاعتدال والفهم الحقيقي الخالص للإسلام بعيدا عن لوثة البدع ونوزاع الخرافة وجنوح الشطحات..ومن ثم كان لابد للاستعمار أن يلعب يبده الماكرة ليفسد هذا الطريق الذي يخرج هذه العقبات التي تعوق أطماعه وتحطم نهبه فعمل على غزو التصوف وتحويل مساره عبر شيوخ البدعة والضلالة المنبطحين الممالئين للسلاطين الطائعين للمستبدين والمحتلين.
ولعل هذه الصورة التي أسس لها الاستعمار وروجها لها المستبدون حاول الاتراك عبر المسلسل الشهير أن يكشفوا عنها اللثام ويعيدوها إلى أصولها ويقرروا حقيقتها ويروا هذه الصورة القميئة المنحرفة التي ظهر بها التصوف في عصرنا الحاضر ، فابن عربي القطب الصوفي الشهير الذي انشغل به السطحيون هل هو ابن عربي الصوفي أم ابن العربي القاضي الإشبيلي المالكي؟! ، وهل لقي أرطغرل أم لم يلتق به ، وسواء كان أم لم يكن.. فالموضوع ما هو الا صورة رمزية للتصوف المرتبط بقضايا الأمة الملامس لهمومها وأزماتها ، فها هو نراه يسيح في المشارق والمغارب يبحث ويحاول أن يجد البطل الموعود الذي ينقذ العالم الإسلامي ويقوده للنصر المبين على أعدائه ، ومن جهة أخرى يطبب الجرحى الذين تُصيبهم ضربات الأعداء ويجتهد في إشفائهم حتى يعودوا لساحة المعركة من جديد ، بل يُمثل المرشد الواعظ كلما ألم اليأس والقنوط بالمجاهدين فيذكرهم بالصبر ويحفزهم بالإيمان كما يشترك في بعض العمليات ويسهم بدور كبير في دفع المناضلين وتحفيزهم ومناقشة الأوضاع السياسية ..ويصيح بين الحين والحين بأعلى صوته ليوقول مدد يا ألله ولم يقل مدد يا حسين أو مدد يا بدوي أو يا سيدي عبد القادر الجيلاني ..كل هذه الأمور تناولها المسلسل كمحاولة قوية لتصحيح مساره ورده للحقيقة الراقية التي كان عليها من قبل والتي حاول الحاقدون تبديلها ليطفوا على السطح ذلك التصوف الخائن العميل المنبطح الجبان.!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف