المصريون
د . السيد خضر
الاستبداد السياسي ...أول موانع التقدم حين تضع خارطة
العالم المعاصر أمام عينيك وتتأمل فيها ملياً تجد عجباً من العجب .. ها هنا في قلب العالم ترتكز دول العالم القديم (آسيا وأوربا وأفريقيا ) وهذا البجر المتوسط أمامك يفصل كتلتين هائلتين من اليابسة : أفريقيا إلى الجنوب وأوربا إلى الشمال . في جنوب المتوسط وشرقه امتداداً
إلى بحر العرب والمحيط الهندي اثنتان وعشرون دولة لغتها واحدة ، ودينها - دين الكثرة من أهلها - واحدٌ ، هو دين الإسلام ، دين العلم والعدل والحرية واحترام حقوق الإنسان أيّاً كان ، دينٌ ذكر كتابُه الأقدسُ ( القرآن الكريم ) لفظَ العلم بمشتقاته المتنوعة في ( 854)
موضعاً منه ، لكنك حين تنظر إلى خارطة العالم المعاصر وإلى مواطن الإبداع العلمي الذي يتحول إلى منتجات تكنولوجية تدخل اليوم كل بيت ستجد هذه الدول جميعاً خارج هذه الخارطة ! أليس ذلك أمراً يستحق من عقلاء هذه الأمة أن يتدارسوه وينبهوا عليه ، بل يعقدوا لأجله المؤتمرات
وينشروا المقالات والدراسات ويلحّوا عليه إلحاحاً ؟ لماذا تخلفنا ؟ لماذا يهرب المبدعون من بلادنا بإبداعهم ؟ لماذا هم في الخارج مبدعون وفي بلادهم منسيون ؟ ثمة أسباب كثيرة لهذه الظاهرة العجيبة ، لكننا نزعم أن على رأسها الاستبدادَ السياسيَّ الجاثمَ على صدر هذه
المنطقة العربية منذ قرون ، إنه صمام مانع للتقدم بل أنواعه . ثمة مفاهيم متعددة للاستبداد السياسي ، لكنّا سنعرفه انطلاقاً من أرض الواقع الذي نعيشه في منطقتنا العربية . الاستبداد السياسي يعني الاستئثار بكل ألوان السلطة في الحكم والإدارة والقضاء والمناصب السيادية
والإعلام والمال ، احتكار مواطن القوة لصالح فئة أو فئات معينة من الشعوب ، وحرمان البقية منها ، وتوارث هذه الامتيازات بصور متنوعة عبر الأجيال ، وتسخير كل الإمكانيات التي تتيحها هذه السلطات للمحافظة على هذا الكيان الاستبدادي المتوارث وإقناع الشعوب بأن هذا الكيان
الاستبدادي هو صمام الأمان لهذه الشعوب التي ينبغي عليها أن تقبل ذلك الواقع المرير صاغرة بل راضية خوفاً من التشرذم والانقسام والحروب الأهلية ومؤامرات الأعداء .. إلى آخر ذلك القاموس التخويفيّ الذي تصنعه الميديا التي هي إحدى صور الاستبداد المتوارثة بل هي آلته
المفضلة في التضليل والتهليل . إن القابض على زمام السلطة الموقن بامتلاك أدواتها لا يخاف من مساءلة الشعوب ، فالشعوب لم تأت به ؛ لذا فهي لا تملك محاسبته ، والمثل الشعبي الألماني يقول ( المزيد من السلطة يعني المزيد من القسوة ) ولا أظن شعوبنا العربية بمنأى من حقيقة
هذا المثل ، ولهذا فإن الشعب الألماني بعد ستة عشر عاماً من حكم هيلموت كول (1982 - 1998) مستشار ألمانيا الأسبق وأحد بناة نهضتها الاقتصادية الحديثة قال للمستشار فجأة : كفى ! وكان ذلك في انتخابات حرة نزيهة ( بالألماني لا بالعربي !! ) وهكذا تفعل الديمقراطيات الناجحة
في عالمنا ، تعطي الفرصة مرة ، فإذا نجح المنتخَب الذي يجتهد للنجاح وُسعَه ليخدم أمته أعطته فرصة أو فرصاً أخرى محدّدة ، وإذا فشل غيّرته بلا قتل ولا قتال . أما أن يفشل فيكافَأ بمزيد من السلطة والاستمرار فهذا لا تعرفه إلا بلاد التخلف والجهل والقمع والاستبداد !
إن النخبة المسيطرة تمارس الاستبداد ليضمن لها الاستمرار ، ولكن غاب عن هذه النخبة أنها يمكن أن تسيطر مع رفع الحالة العامة للشعب كذلك فيكون ثمةَ تقارب اجتماعي وشيء من العدالة في توزيع الثروة ، وبهذا تقلل من الحقد الاجتماعي وتغرس بذور التقدم والإبداع ، ولا فرق
في ذلك بين النظم الجمهورية والملكية ، ففي أوربا - على سبيل المثال - نظم جمهورية وأخرى ملكية كما هو الحال في بلادنا العربية ، لكن تداول السلطة الفعلية واحترام العلم والعلماء والنظم القضائية والاجتماعية العادلة ، والحرية الفردية والمؤسسية .. كلها عوامل للإبداع
والانطلاق تعرفها بلاد شمال المتوسط وتغيب عن بلاد جنوبه وشرقه . لقد استقلّت أكثر بلادنا العربية عن الاستعمار الغربي منذ فترة تزيد على نصف قرن ، وملكت زمامها بيد نخبتها المسيطرة ، وثمة دول غيرها مرت بأسوأ من ظروف بلادنا العربية لكنها تجاوزتها في عالم التقدم
العلمي والصناعي ، كوريا الجنوبية وماليزيا مثالان على ذلك ، كوريا الجنوبية خرجت من حربها مع أختها كوريا الشمالية محطمة سنة 1953 ، وهو قريب من التاريخ الذي قامت فيه الثورة المصرية ، واليوم فإن عمالقة الصناعة الكورية تغزو العالم بمنتجات سامسونج ودايو و(L.G )
وهيونداي وكيا ، بل إن معظم بيوت العالم اليوم تستمتع بالمصنوعات الكورية الجيدة ، رخيصة الثمن نسبياً قياساً إلى الياباني والغربي ، كوريا الجنوبية خرجت من الحرب محطّمة لكنها مع الحرية وتداول السلطة والعدل والتعليم الجيد وصلت إلى ما وصلت إليه ، أما أختها كوريا
الشمالية فقد مضت في طريق الاستبداد القاسي ( الجدّ والابن والحفيد ) رؤساء متتابعون ! وهي اليوم أكبر سجن مفتوح في العالم ! نحن لا ندعو - في عالمنا العربي - إلى ثورات جديدة ، فكفى دماءً في ثورات تمّ التفافُ النخبة ثانية على أكثرها ، لكن بوحشية وعنف زائد ، نحن
ندعو النخبة نفسها إلى أن تفكر ثانياً وثالثاً في الارتقاء بشعوبها ومشاركتها الخير والسلطة ، ولأنْ تبيتَ شبعانَ وجارك مثلك أو مقاربٌ لك .. خيرٌ من أن تبيتَ شبعانَ وجارك إلى جنبك جوعانَ يلعنك ويشكوك إلى الله ، الجوع اليوم ليس جوع البطون فحسب ، بقدر ما هو جوع
الحرية والعدل والعلم والإبداع واحترام حقوق الإنسان . وقد أعطى الدستور المصري ( 2014 ) المعمول به حالياً الفرصة للممارسة السياسية التي تسمح بحرية الاختيار والانتخابات وتداول السلطة.. وهذا أمر جيد ، لكن لا تزال الممارسة العملية في الواقع بعيدة عن ذلك ، والأمل
معقود على أن تزول الفجوة بين النظرية وتطبيقها العملي ، أملاً في تقدم بلدنا الغني بأهله وموارده الفقير في إداراته المتتابعة . إن دورنا هنا التذكير والنصيحة التي نحن بها مأمورون ، والتحذير من المخالفات المفضيات إلى عقوبات الله تعالى ، وفي صحيح مسلم عن عائشة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" اللهُمَّ مَنْ وليَ منْ أمْر أمتي شيئاً فشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه ، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفقْ به "وفي الصحيحين عن معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما من عبد يسترعيه اللهُ رعيةً فلم يُحطْها
بنصحه إلا لم يجدْ رائحةَ الجنةِ " وفي صحيح مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَـــــــــــالَ:" الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف