ما نتخذه من قرارات يومية لا يأتى من فراغ، هناك أهمية بالطبع للكيفية التى تتخذ بها القرارات السياسية والاقتصادية التى تؤثر فى حياة المواطنين،
وهذه الكيفية متأثرة دوما بالاحتياجات والمصالح الوطنية، ولا جدال أن البيئة الداخلية فى مصر تلقى بظلال ثقيلة على متخذ القرارات التى باتت كلها صعبة. ولكن البيئة الخارجية لهذه القرارات لا تقل أهمية، ورصدها والحساسية تجاهها واجبة ليس فقط لصانع القرار، وإنما أيضا للرأى العام المصري؛ وسواء أردنا أو لم نرد فإن مصر بنت بيئتها وموقعها الجغرافي، وهى دولة مستهلكة لكثير من عناصر القوة أموالا وتسليحا وتجارة. وفى القاهرة فإن من يتخذ القرار يعرف أن أمامه قضيتين كلاهما له امتداداته الإقليمية والعالمية: الأمن والتنمية. حالة الشرق الأوسط غير المستقرة تلقى بظلالها الثقيلة على الدولة المصرية؛ وحالة التوتر والصراع فى النظام الدولى كله تؤثر سلبا وإيجابا على مصر. الإشكالية فى كل ذلك أنه لا الإقليم ولا العالم يبقى على حاله، ليس كل يوم، ولكن ربما كل ساعة أو دقيقة أو حتى ثانية. معامل السرعة فى التغيرات الدولية والإقليمية يمضى بين غمضة عين وانتباهتها، وما لم نكن جاهزين لهذه الحالة فإن القطار سوف يتركنا، أو أن حالنا سوف يكون من حال المحارب لحرب انتهت منذ زمن بعيد.
سوف نترك البيئة الداخلية والإقليمية على أهميتهما البالغة جانبا هذه المرة بسبب مساحة المقال (800 كلمة)، وسوف نرصد عددا من الأحداث المهمة فى النطاق الدولى جرت كلها خلال الأسبوع الماضي، أولها قصف الولايات المتحدة لقاعدة جوية سورية بعد اتهام النظام السورى باستخدام الأسلحة الكيماوية؛ وثانيها توجه «أرمادا» أمريكية مكونة من حاملة طائرات ومجموعتها القتالية فى اتجاه بحر الصين الجنوبى نحو كوريا الشمالية التى تذيع أنها بصدد تجارب جديدة للصواريخ الى تصل إلى الولايات المتحدة، فضلا عن اختبار قنابل نووية؛ وثالثها استخدام الولايات المتحدة «لأم القنابل» أضخم القنابل غير النووية ـ لتدمير قاعدة لداعش فى أفغانستان؛ ورابعها استخدام روسيا لحق الفيتو فى الاعتراض على قرار قدمته الولايات المتحدة لمجلس الأمن يحمل النظام السورى المسئولية عن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد مواطنيه، وامتناع الصين عن التصويت (مصر صوتت لصالح القرار).
ما الذى يعنيه ذلك كله بالنسبة لنا ؟ أولا أن النظام الدولى بسبيله لكى يدخل مرحلة جديدة من العنف والتوتر، وربما الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو. انتهت مرحلة أوباما والانسحاب الأمريكى من العالم، وخاصة الشرق الأوسط، وأصبح هناك فى البيت الأبيض من هو على استعداد لاستخدام القوة العسكرية، بكثرة وبغزارة. مثل ذلك قد يعنى تحولا كبيرا فى إدارة ترامب من «العزلة» إلى «التورط»، ومن السعى للتوافق مع روسيا للوصاية على العالم معا إلى المنافسة بأشكال متنوعة. بداية هذا التحول ظهرت من داخل إدارة ترامب عندما لم يذهب فقط «مايكل فلين» مستشار الأمن القومى السابق فقط، بل ومعه تراجع «ستيف بانون» المستشار الإستراتيجى الأيدلوجى للرئيس؛ وإنما فوق ذلك صعود نجمى وزير الدفاع «ماتيس»، ومعه، وربما الأكثر أهمية، «ماكماستر» مستشار الأمن القومى حاليا. هذا الأخير من أبرز القيادات العسكرية الأمريكية التى ظهرت هذا القرن من خلال القدرات العملياتية الكبيرة، والموهبة النظرية فى فن الحرب التى ظهرت فى كتبه ودراساته.
ثانيا أن قيام الولايات المتحدة بقصف القاعدة الجوية قرب حمص فى سوريا حدث بينما يتناول الرئيس الصينى شى جين بينغ وزوجته طعام العشاء فى المنتجع الخاص بدونالد ترامب ـ وارا لاجو ـ فى فلوريدا. وعندما كان الرئيسان والزوجتان يتناولون الحلوي، جاءت الإشارة إلى الرئيس الأمريكى بانطلاق الصواريخ فى اتجاه أهدافها، فقام بإبلاغ الرئيس الصيني؛ ولم تكن هناك مفاجأة كبرى بعد ذلك أن الصين امتنعت عن التصويت فى مجلس الأمن. لم تكن الصواريخ رسالة فقط إلى النظام السوري، بل كانت موجهة إلى روسيا والصين وكوريا الشمالية؛ ومن يعلم ربما العالم كله. هل معنى ذلك أن ترامب قد قلب رهانه الرئيسى فى العلاقات الدولية من روسيا إلى الصين التى يبدو أنها لم يكن لديها أكثر من الإصرار على المضى قدما فى البناء الاقتصاد الصيني، وليس الاستعداد للمشاركة فى ألاعيب القوة للعلاقات الدولية؛ وفى هذه الحالة فإن الولايات المتحدة أكثر أهمية من روسيا؟
ثالثا أن تغيرات ترامب لم تكن تتعلق فقط بروسيا والصين، وإنما العودة الحميمة إلى حلف الأطلنطى مرة أخرى والتى سبق وصفه بأن الزمان تخطاه. فما الذى حدث فى فكر الرئيس الأمريكي، وهل هو تغير حقا بهذه السرعة، أم أنه يريد عقد الصفقة الكبرى مع بوتين، وفى يده أوراق كثيرة تتيح له ترتيبات تجعل أمريكا متقدمة وقائدة على العالم؟ أم أن الأمر كله ليس بهذه الحكمة، وإنما هى حزمة من التخبطات التى تأتى إلى الرئيس الأمريكى حسب الزمن والساعة؟ مثل ذلك لا يبدو ممكنا، ولكن لا يمكن استبعاده من الحسابات، فالرجل لا يخلو من اندفاع، وقرارات اتخذها غير محسوبة، وفى كل الأحوال فإن المؤسسات الأمريكية، بما فيها الكونجرس والإعلام، تلهث وراءه بحثا عن الحكمة الغائبة.
مصر كان عليها مواجهة هذه التغيرات السريعة خلال الأيام القليلة الماضية، وظهر ذلك فى تحديد موقفها التصويتى فى مجلس الأمن حيث لا يكون التصويت بالإيجاب أو السلب له ثمن، وإنما أيضا الغياب أو الامتناع عن التصويت، لهما أيضا ثمن. وعندما يتجه النظام الدولى إلى مزيد من العنف، ودرجة أعلى من عدم الاستقرار، وبزوغ الحرب الباردة مرة أخرى ليس كما عرفناها فى الماضي، وإنما وفق معطيات القرن الحادى والعشرين؛ فإن فرصا ومخاطر تبزغ أمام مصر تحتاج كثيرا من العلم والمعرفة والحكمة والوضوح التام لمصالحنا وأولوياتنا. تلك هى المسألة.