الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
الخطاب الذى لم نعد نتحدث عنه ــ 3
هناك من يظن أن الدعوة لتجديد الخطاب الدينى دعوة جديدة، وربما كان الذين يظنون هذا الظن كثيرين لأن العبارة المستخدمة فى هذه الدعوة وهى «الخطاب الديني»
عبارة جديدة لم تستعمل بمعناها المتعارف عليه الآن إلا نتيجة للتطورات الحديثة التى لحقت بالدراسات اللغوية.

هذه الدراسات الجديدة اعتبرت اللغة بنية أو نسقا لايفهم بمفرداته، وإنما يفهم بكل مايدخل فيه ويشكله من عناصر وإشارات ظاهرة أو غير ظاهرة. ومن هنا تختلف النصوص اللغوية الأدبية والدينية والفكرية ونختلف فى قراءتنا لها وفهمنا إياها ونحتاج لمراجعة هذا الفهم ورده إلى أصوله الأولى لنكتشف مثلا أن مايفهمه البعض من النص الدينى لايستند إلى أساس موجود فى النص، وأنه مجرد اتباع أو اجتهاد شخصى تأثر بمناخ سائد أو بوضع سياسى أو اجتماعى وفرض نفسه على قارئ النص وأنتج خطابه الذى نستطيع أن ننقده وأن نطالب بتجديده كما فعل نصر حامد أبو زيد فى كتابه «نقد الخطاب الديني» وكما فعلنا نحن حين طالبنا باعادة النظر فى الخطاب الدينى السائد الذى تتبناه جماعات الاسلام السياسى وتتبناه المنظمات الارهابية التى أعلنت الحرب علينا وعلى العالم كله. ولهذا ارتبطت الدعوة لتجديد الخطاب الدينى بالأحداث السياسية الكبرى التى توالت فى السنوات الاخيرة.

لكن الدعوة لتجديد الخطاب الدينى ليست جديدة إلا بهذه العبارة الجديدة التى أصبحنا نستعملها وهى عبارة الخطاب الديني. أما بمضمونها وهو الدعوة للاجتهاد فى فهم النصوص الدينية فهما جديدا يتفق مع روح العصر ويلبى مطالبنا فيه ولايتعارض مع الحقائق والمبادئ والنظم والحقوق التى قامت عليها الحضارة الانسانية الحديثة. فهى دعوة بدأت مع بداية نهضتنا التى لم نستكملها حتى الآن.

لقد سرنا فى طرق النهضة أشواطا وتوقفنا، وتقدمنا أحياناً وتخلفنا وخلال ذلك كانت أصوات المطالبين بإصلاح الازهر وتجديد الفكر الدينى ترتفع ولاتجد من يستجيب فيصيبها الإحباط وتتراجع وتختفي، ثم تواصل الحياة تطورها وتقع الاحداث التى ترتفع فيها الأصوات من جديد، مطالبة بالاصلاح والاجتهاد ويظل التجاهل المتكرر من المؤسسات الدينية والسياسية القائمة هو الموقف المتكرر. لأن الحاجة لتجديد الخطاب الدينى هى حاجة الجميع وخاصة البسطاء الذين يحتاجون قبل غيرهم للمعرفة والتقدم والحرية ولايستطيعون وحدهم أن يعرفوا مايحتاجون إليه، ولايستطيعون إذا عرفوه أن يفرضوا ارادتهم أو يحققوا أهدافهم.

أما القادرون الذين يتمتعون بالسلطة والثروة فهم بحكم تكوينهم ومصالحهم منحازون للخطاب الموروث الذى يضمن لهم هذه المزايا والذى لم نستطع أن نتحرر منه حتى الآن رغم ما عرفناه من تطورات جذرية نقلتنا من حال إلى حال.

ولقد بدأت الدعوة لتجديد الخطاب الدينى أول ما بدأت وخرجت أول ما خرجت من قلب المؤسسة التى نطالبها الآن بتجديد الخطاب الدينى ولا نلقى جوابا شافيا وهى الأزهر وذلك على لسان واحد من أئمته هو الشيخ حسن العطار الذى شهد دخول الفرنسيين مصر، واتصل بهم وانبهر مثل غيره بما رآه من علومهم وفنونهم، وتولى مشيخة الأزهر فى أيام محمد على وشجعه على المضى فى إصلاحاته، وهو الذى أشار عليه بإرسال تلميذه رفاعة رافع الطهطاوى إلى باريس مع من أرسلهم محمد على ليتعلموا فى معاهدها، وهذا ما يحدثنا عنه على مبارك فى «الخطط التوفيقية» فيقول:

«واتصل بناس من الفرنساوية، فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة فى بلادهم، ويفيدهم اللغة العربية ويقول ـ والقائل هو حسن العطار ـ إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، وهو ـ أى حسن العطار ـ يتعجب مما وصلت إليه هذه الأمة ـ يعنى الأمة الفرنسية ـ من المعارف والعلوم، ومن كثرة كتبهم وتحريرها وتقريبها لطرق الاستفادة».

لكن حسن العطار الذى عبر عن حاجتنا للتجديد وساعد محمد على فى إنجاز ما قام به لم يتمكن من تجديد الخطاب الدينى الموروث الذى تمسك به الأزهر، وظل محافظا عليه حتى الآن رغم أن الدعوة لتجديد هذا الخطاب لم تنقطع حتى الآن، فقد واصلها تلميذه رفاعة رافع الطهطاوى الذى عاد من فرنسا ليطالب الأزهر بإدخال العلوم الحديثة فى برامجه الدراسية، وفى هذا يقول فى كتابه «مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية»، ضمن حديثه عن الأزهر ورجاله: «إن لهم اليد البيضاء فى اتقان الأحكام الشرعية العملية والاعتقادية. غير أن هذا وحده لا يفى للوطن بقضاء الوطر، ويجب معرفة سائر المعارف البشرية المدنية التى لها مدخل فى تقديم الوطنية من كل ما يحمد على تعلمه وتعليمه علماء الأمة المحمدية».

غير أن علماء الأمة المحمدية لم يستمعوا للطهطاوى كما لم يستمعوا قبله للعطار وكما لم يستمعوا بعده للإمام محمد عبده.

الشيخ الشربينى الذى تولى المشيخة فى أواخر القرن التاسع عشر يقول فى حديث له إن الخدمة التى يؤديها الأزهر هى أن يقوم بحفظ الدين لا غير. أما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم العصر فلا علاقة للأزهر به. والذين يطالبون بإدخال العلوم الحديثة فى الأزهر يحاولون هدم التعليم الديني، ويحولون هذا المسجد العظيم إلى مدرسة فلسفة وآداب تحارب الدين وتطفئ نوره. وإنى أسمع منذ سنوات ـ والكلام لا يزال للشيخ الشربينى ـ بشيء يسمونه إصلاح الأزهر، ولكنى لم أر لهذا الإصلاح نتيجة تذكر سوى انتشار الفوضى فى ربوعه، وذهاب ما كان من مودة ورحمة ومهابة بين الطلبة ومشايخهم.

بل إن الجمود جعل واحدا من شيوخ الأزهر يرفض تدريس «مقدمة ابن خلدون» فى الأزهر حين اقترح ذلك الأستاذ الإمام محمد عبده، ووصف له الفوائد التى ستعود على طلاب الأزهر من تدريسها، فأجابه الشيخ الجليل: إن العادة لم تجر بذلك!.

ونحن نعرف بالطبع أن هذا الوضع تغير، وأن العلوم الحديثة دخلت الأزهر. فهل غير دخولها شيئا فى الخطاب الديني؟ وهل ساعدت على تجديده؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف