عنوان هذا المقال ليس عنوانا لفيلم سينمائي أو مسلسل تليفزيوني من مسلسلات رمضان،
ولكنه عنوان لمؤتمر اقتصادى نظمته جامعة أسيوط منذ عدة أيام لتشجيع الاستثمار فى الصعيد وافتتحه وزير التجارة والصناعة المهندس طارق قابيل، ومع تسليمنا الكامل بضرورة العمل على تنمية وتشحيع الاستثمار فى الصعيد وتوجيه جهود التنمية إلى هذا الإقليم وهو الهدف الذى نصبو إليه جميعا، إلا أننا نتساءل هل كان اختيار هذا العنوان موفقا من جانب منظمى المؤتمر أم لا؟ لاشك ان الاجابة ستكون بالنفى ليس فقط لانه يفتقد الى لغة الخطاب الصحيحة، والتى يجب أن تكون فى إطار القيم المجتمعية السائدة مما يساعد على تحقيق الأهداف المرجوة منه «ولكن وهو الأهم انه سيؤدى لسيادة انطباع بعدم الجدية فى هذه المسألة».
وحتى لانظلم القائمين على المؤتمر فإننا نشير الى أن هذا العنوان يعكس نمطا سائدا فى المجتمع المصرى عموما ولدى الحكومات المصرية على وجه التحديد«حيث تتبنى نظرية “ الشيخ البعيد سره باتع” كما يقول المثل المصري» فمعظم قضايانا المحلية تتم الاستعانة فيها بخبراء ومكاتب استشارية أجنبية باعتبارها وحدها التى تملك الرؤية العلمية الصحيحة لوضع الأطر المناسبة للقضاء على المشكلات «والأمثلة على ذلك عديدة ومتنوعة ولاتقتصر على مجال واحد من المجالات بل تتعداها لتشمل جميع المجالات» ففى قطاع الغزل والنسيج وهى الصناعة التى تتمتع فيها مصر بمزايا نسبية وخبرات تاريخية وعملية عديدة ومتنوعة، إذ تعد من أقدم وأعرق الصناعات المصرية على الإطلاق بل ان معظم محاولات بناء صناعة مستقلة مصرية قد بدأت انطلاقا من هذه الصناعة خاصة بعد أن تخصصت مصر فى زراعة وتصدير القطن إبان فترة محمد على وما تلاها. بل إن تاريخ مصر الاقتصادى قد ارتبط أساسا بهذه الصناعة وما يحدث بها من تطورات وتغييرات نظرا للدور المهم الذى تلعبه فى المجتمع. ورغم كل ذلك فقد لجأت الحكومة الى مكتب استشارى أجنبى لوضع خطة للنهوض بها وإقالتها من عثرتها رغم وجود العديد من الدراسات والأبحاث الوطنية التى تناولتها بالتوضيح الكافى من كل جوانبها ووضعت الآليات اللازمة للخروج من المأزق الحالي، وينطبق نفس الوضع على شركة الحديد والصلب والتى انتهت لجنة وطنية ضمت خبراء متميزين من إعداد رؤية كاملة وشاملة للإصلاح، ولكننا لجأنا ايضا الى مكتب استشارى أجنبي، وينطبق نفس القول على السكك الحديدية، بل ولجات مؤخرا وزارة التضامن الاجتماعى إلى أحد هذه المكاتب لإعداد دراسة شاملة لتطوير بنك ناصر الاجتماعي، رغم ما يتمتع به من خصوصية «وكان آخر هذه المحاولات ما أثير حول انشاء جهاز لإدارة الأصول المملوكة للدولة والذى تمت فيه الاستعانة بمكتب خبرة أجنبي، رغم ان هذا الموضوع كان قد طرح من قبل فى عام 2009 وتم اقتراح إنشاء جهاز إدارة الأصول المملوكة للدولة ولاقى قبولا كبيرا عندما تم طرحه للحوار المجتمعى من جانب المتخصصين والبرلمانيين والإعلاميين من جميع التيارات. وتمت إعادة المحاولة مرة أخرى عام 2014 واتفقت الآراء على ضرورة انشاء هذا الكيان ليكون بمنزلة الذراع الاستثمارية للدولة ويتمتع بقدر كبير من المرونة ولديه العديد من الآليات التى تمكنه من تحقيق الأهداف التنموية, ولكن للأسف الشديد فقد تم إهمال كل هذه الأعمال وولجنا أيضا الى مكاتب استشارية خارجية، وقد أدى هذا الاتجاه الى تحول الاهتمام من العمل على حسن استغلال هذه الأصول لتضيف طاقة إنتاجية للمجتمع الى التخلص من هذه الأصول مباشرة دون التفكير فى الإصلاح الجذرى لها «وهناك العديد من الأمثلة التى تشير الى أن الحكومات المختلفة تسير على نفس النهج وهو البحث عن الخبير الاجنبى كمنقذ، دون ادنى محاولة منها لمراجعة ماهو قائم حاليا من دراسات وابحاث فى المجالات المختلفة والاستفادة منها».
وهنا تجدر الاشارة الى أن وزارة قطاع الأعمال ومركز تحديث الصناعة التابع لوزارة التجارة والصناعة لديهما العديد من الدراسات العلمية والعملية فى معظم هذه المجالات ناهيك عما لدى الجهات البحثية الأخرى مثل المجالس القومية المتخصصة، قبل إلغائها ومراكز الدراسات المختلفة « فضلا عن الدراسات التى قامت بها اللجان المتخصصة فى مجلس الشوري،خلال السنوات الماضية» وغيرها الكثير، وهو ما يدفعنا للقول دون أدنى تجاوز للحقيقة، ان معظم المشكلات الراهنة التى يعانى منها المجتمع، يمكن ان توضع لها خريطة طريق اذا ما أحسنا القراءة الدقيقة لهذه الأبحاث والدراسات مع تحديثها بما يمكنها من استيعاب التغيرات والتطورات الجارية على الساحة «بعبارة أخرى فنحن لانرفض فكرة الاستعانة بالخبرات الأجنبية والتجارب التاريخية والدولية، ولكن الاعتماد عليها على طول الخط خطأ كبير لعدة أسباب أولها أن هذه المكاتب لاتملك الرؤية الشاملة والكاملة عن الأوضاع المجتمعية المعاشة والواقع العملى الصحيح، ولذلك غالبا ما يلجأ القائمون عليها للاستعانة بالخبراء المحليين ودراستهم ولايقدمون إلاالقشور فى هذا الموضوع او ذاك، وخير دليل على ذلك الدراسات التى قامت بها هذه المكاتب فى نهاية القرن الماضي، ويمكن الرجوع اليها والتى مازالت لم تبرح مكانها فى إدراج الوزارات حتى الآن».
من هذا المنطلق وحفاظا على المال العام يمكننا أن نقترح قيام كل من وزارات الصناعة والتجارة والتخطيط والمتابعة وقطاع الأعمال العام بتكوين فيما بينها مجموعة عمل، أو مجموعات، تتولى بحث المشروعات القائمة والمتعثرة وغيرها لإبداء الرأى فى آليات الحل وسبل التصدى لها، وتضع خريطة كاملة للدراسات السابقة فى المجال محل الدراسة وتوضع امام القائمين على الدراسات، الأمر الذى يسهم فى توسيع قاعدة المشاركة وتعدد الأطراف بما يضمن تحقيق الأهداف المنوطة به وعلى رأسها المشاركة الكفء فى صنع السياسة الاقتصادية. وفى هذا السياق، يجب أن تتضمن هذه المجموعات فى تشكيلها ممثلين عن رجال الأعمال واتحاد الصناعة والأجهزة الحكومية المعنيّة، مما يمنحه المزيد من المرونة والاستقلالية. وتصبح بوتقة تنصهر فيها الأفكار والآراء لتضع الرؤية الصحيحة والشاملة للمشكلة محل البحث والانطلاق الى آفاق المستقبل. فالقضايا الحالية تحتاج إلى المزيد من التأمل وإعمال الفكر بغية وضع التصورات الرئيسية حول الأطر المستقبلية عبر دراسة التاريخ والتحليل العميق لأخطاء الماضى والابتعاد عن التأكيدات السريعة والمشحونة بالانفعالات. وهكذا يجب البعد عن الأفكار البالية والبحث فى آليات جديدة. وهو ما يحتاج وبحق الى بناء العقل النقدى والخلاق باعتباره إحدى الآليات الداعمة للنهضة المصرية المنشودة. وهو مالن يتحقق إلا بعقول وسواعد المصريين.