قرأت لسهام العربي قصتها الأولي. فأنا إذن متابع لكتاباتها منذ حاولت الإبداع. لم تكن أعمال سهام الأولي لافتة بما يقدم لنا مبدعة متفوقة. لكنها طالعتنا بمشروع مبدعة ــ إن جاز التعبير ــ تستطيع ــ بالقراءة واكتساب الخبرات والمثابرة ــ أن تزكي موهبتها. وتراهن عليها.
مفردات هذه الرواية "إسدال" ــ أو مفردات المكان بتعبير أدق ــ هي بيت المغتربات. مدرجات الجامعة. المستشفي. عيادات الأطباء. الشوارع. الحدائق. المدن البعيدة. الصحراء. بالإضافة ــ طبعاً ــ إلي القرية. التي تحرك ــ بزيف العلاقات بين أبنائها. والاحساس بالغربة. والميل إلي العدوانية ــ حنيناً إلي القرية بما تحمله من البراءة والطهر والمسالمة والتكافل. المشهد يتضمن ما يعد بانوراما شاملة للمجتمع المصري في زماننا الحالي. أو ما قبله بقليل. عشرات المفردات تصنع لوحة. تكويناتها القسمات الشاحبة. والظلال.
العلاقات تبين عن الكثير من ملامح العلاقات بين أبناء المدينة الغائبة الهوية. الصاخبة. المزدحمة. والتي تعكس صورة مجتمع في أوقات انهياره. تعبر عنها نظرة الفتاة إلي الشاب. ونظرة الشاب إلي الفتاة. والخوف والاقتناص والمطاردة. حتي العلاقات الشاذة التي انتهت بالفشل. وكل ما يشي بأحوال المجتمع في أحوال انهياره.
قد تبدو بعض الشخصيات سلبية. فهي نماذج ضعيفةو متخاذلة. أمام ضغوط الحياة. تتجنب اية رغبة جادة في تغيير الواقع الاجتماعي. لكن هذا الرأي يبدو غير صحيح في تولد الإيجابية من السليية. والمقاومة من السكون.
للرواية بعدها السياسي. المتمثل في إشارات مختصرة ــ وإن حفلت بالدلالات ــ إلي العلاقات العربية ــ العربية. وإلي الأوضاع في القرية والمدينة والزحام وتهرؤ العلاقات والإسدال الذي قد يخفي ما هو أشر من العيب. وتجاوز الفنان قضايا المجتمع المصري. في الداخل. وفي علاقاته بالآخر. إلي قضايا إنسانية عامة. وإن انعكست تأثيراتها علي المواطن المصري.
الرواية معاناة وخبرة وقراءة وتأمل. وليست مجرد تسلية أو فضفضة. من يريد التسلية أو فصفضة. الفضفضة. بوسعه أن يكتب مذكراته. أو ذكرياته. أو خواطره القلمية. لكن ما يكتبه من هذا المنطلق يصعب أن يمضي في اتجاه فنية الرواية. وقد اختارت سهام العربي أن تمضي في الاتجاه الصحيح للرواية. لا يحصل القاريء من العمل الإبداعي علي المتعة وحدها. لكنه يحصل ــ في الوقت نفسه ــ علي معرفة أعمق وأغني بالحياة الإنسانية. المعرفة الأعمق. والأغني. هي القيمة الأهم التي تحملها هذه الرواية.
سهام العربي تملك أدواتها. قاموسها اللغوي واضح الثراء. لا تكاد تلح علي كلمة أو جملة. وهي تحسن اختيار الكلمة الأصدق تعبيراً. وتجيد موسيقا اللغة وإيقاعها. ونقل المعني بما يرفض الجفاف والمباشرة. أو التلغيز. فالنثر ليس مجرد زخارف علي الهامش. لكنه بناء معماري فني شديد الحيوية. انه يتألف من عناصر فنية. لكل منها وظيفته المحددة. والمرتبطة عضوياً بوظائف العناصر الأخري. بما يحقق التفاعل بين كل العناصر. تحقيقاً لعمل فني يسعي إلي التفوق.