د/ شوقى علام
الخلل في فهم السيرة النبوية
مع تزايد الأزمات وتكرار الحوادث الأليمة التي تكاد تعصف بالأمة في هذا العصر لم يَعُدْ شرح سمات منهج الأمة الوسط الذي تحمل مشاعله المدارس العلمية العريقة كالأزهر الشريف من نافلة العمل، بل بات مطلبا ضروريًّا في ترشيد مسيرة الأمة نحو الفهم المستنير للكتاب الكريم والسنة المطهرة وحضارة المسلمين الخالدة.
ذلك لأن جماعات التشدد والتطرف لا يستقون معارفهم إلا من خلال المناهج الانتقائية والقراءات المجتزأة التي تأخذ بنص وتغفل آخر، مع قلة الاهتمام بالسيرة النبوية القائمة على الأحداث العمليَّة والأمور الإجرائية التي وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقًا للأدلة الشرعية، ومن ثَمَّ كانت التداعيات الخطيرة على واقع الأمة التي تجلت فيه الفوضى وانتشر فيها الخلل في المنهج واضطربت الموازين.
إن السيرة النبوية وحدها كفيلة بإثبات فساد هذين المنهجين وكشف شبهاتهم وتناقضاتهم، لأنها تمثل الصورة الواقعية لمسيرة قائد البشرية صلى الله عليه وسلم التي جسَّد فيها معاني الرحمة ووضح بها ركائز الأمن والطمأنينة في المجتمع واحتواء فئاته المتنوعة، ورسخ من خلالها منطلقات وأسس الانفتاح على الآخر، فضلا عن معالم التلاقي والتحالف مع غير المسلمين في شتى القضايا، حتى انقاد العالم لها دون عنصرية أو تمييز أو إساءة.
ولا ريب فقد رفض النبي صلى الله عليه وسلم بالقول والعمل كل السبل التي من شأنها فرض العقائد والإكراه عليها؛ فهناك كثير من المواقف في هذا الباب تُعَدُّ من مفاخر الأخلاق في تاريخ الإنسانية،منها: موقف وفد نصارى نَجْران الذين قَدِموا عليه صلى الله عليه وسلم في عام الوفود ودخلوا عليه مسجده حين صلى العصر وقد حان وقت صلاتهم أرادوا ممارسة شعائرهم وطقوسهم في مسجده الشريف، مع أن المسجد - كما هو معلوم - هو بيت عبادة خاص بالمسلمين، وقد همَّ الناس بمنعهم، لكن عاجلهم الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم بقوله الكريم: »دَعُوهُم«، فصلَّوْا إلى المشرق.
ويؤيد ذلك أيضًا: أن الإسلام قد ضمن لغير المسلمين سلامة دور عباداتهم، وحرم الاعتداء عليها بكل أشكاله. والقرآن الكريم جعل تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان في حال تمكين الله تعالى لهم في الأرض سببًا في حفظ دور العبادة - سواء أكانت للمسلمين أم لغيرهم- من الهدم وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها، وذلك في قوله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَر≠ِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج: 40-41].
كما أنه قد جاء الهدي النبوي بمقاصد سامية بلغت الكمال في ما ينبغي أن تكون عليه الإنسانية من الحرية الدينية واحترام الخصوصيات على وجه مبهر؛ ومنها: كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم، وأنّ لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بِيَعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(دلائل النبوة للبيهقي 5/389).
وكما وصَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين خاصة أهل الكتاب على جهة العموم في كل زمان ومكان، وصَّى أيضًا بطوائف منهم يأتون بعده على جهة الخصوص؛ كوصيته الثابتة بأقباط مصر: والتي رواها الإمام الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» حيث قال: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً». وبذلك فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة تقطع دابر أهل التطرف وتكشف خبث طوية أصحاب الشبهات الذين يبترون النصوص من سياقاتها، وتشهد بأن هؤلاء قد ضلوا عن طريق الهداية ونبراس الاقتداء الذي تكشف عنه وقائع السيرة النبوية.