الجمهورية
د. محمد مختار جمعة
مفهوم الاحترام
الاحترام ليس شعاراً. إنما هو منتهي العفة في اللسان. والترفع في السلوك. والوفاء في العهد والوعد. والإسراع في رد الجميل. ومقابلة الإحسان بمثله بل بأفضل منه. حيث يقول الحق سبحانه: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" "النساء: 85" وحيث يقول "عز وجل": "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" "فصلت: 34 ــ 35".
إنه الترفع عن الصغائر والدنايا. واجتناب كل ما يخل بالمروءة والكرامة. سواء في مطمع. أم في ملبس. أم في مجلس. أم في ولوج مواطن الشبهات.
إنه الصدق في القول. والرحمة في غير ضعف. والتواضع في غير ذل. والقوة في الحق. بلا تردد وبلا تجاوز ولا عنف. والصفح والحلم عند المقدرة. والتجاوز عن المعسر. وإنظار الموسر.
إنه التحلي بالإيثار لا الاتصاف بالأثرة أو الأنانية. إنه البعد عن كل ما يشين من الحمق والطيش والنزق. والاستغلال. والاحتكار. والغش. والتدليس. والظلم. والإفك. والافتراء. والبهتان.
إنه الاعتراف بحق الآخرين. وحب الخير لهم. وحسن الانصات إليهم وعدم الاستهانة بهم. أو التقليل من شأنهم.
إنه وضع الشيء في موضعه من احترام الكبير. ورحمة الصغير. وإنزال العلماء والعظماء منازلهم. حيث يقول سيدنا رسول الله "صلي الله عليه وسلم": "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا" "رواه الترمذي". ولما رأي "صلي الله عليه وسلم" سيدنا سعد بن معاذ "رضي الله عنه": قال للأنصار: "قوموا إلي سيدكم" وقال "صلي الله عليه وسلم": "إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه" ولما تولي سيدنا أبوموسي الأشعري "رضي الله عنه" ولاية الكوفة جعل يفتح أبوابه للناس جميعاً. فكانت العامة والدهماء تسارع إلي مجلسه. حتي إذا جاء العلماء والقراء وشيوخ القبائل ورءوس الناس لم يجدوا لهم موضعاً فينصرفوا. فكتبوا إلي سيدنا عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" بذلك. فكتب إلي سيدنا أبي موسي الأشعري "رضي الله عنه": ما هكذا أبا موسي يكون الفقه. إذا فتحت بابك فائذن للعلماء والقراء ورءوس الناس فإذا أخذوا أماكنهم فاسمح لعامة الناس.
وإذا كان الاحترام مطلوباً علي كل حال ومن كل فئة. فإنه في مجال العلم وبين أهل العلم ألزم وأوجب.
غير أننا مما ابتلينا به في زماننا هذا تجرؤ الجهلاء علي العلماء. والدهماء علي العظماء. والرويبضة علي أهل العلم والفكر. حتي صار بعض الناس يتخذون من مرشديهم غير المؤهلين رءوساً جهالاً فيستفتون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون.
وقد عد العقلاء من طامة الدهر ومصائبه وابتلاءاته انقلاب الأحوال ووضع الأمور في غير نصابها. حتي قال أحدهم: متي تصل العطاش إلي ارتواء
إذا استقت البحار من الركايا؟!
وإن ترفع الوضعاء يوماً
علي الرفعاء من أدهي الرزايا
إذا استوت الأسافل الأعالي
فقد طابت منادمة المنايا
وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل "رحمه الله تعالي": كم يكفي الرجل من الحديث حتي يمكنه أن يفتي؟ أيكفيه مائة ألف حديث؟ قال: لا. قيل: مائتا ألف؟ قال: لا. قيل: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا. قيل: أربعمائة ألف؟ قال: لا. قيل: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو. أي أرجو أن يكفيه. وكان ابن دقيق العيد رحمه الله تعالي يقول:
يقولون هذا عندنا غير جائز
ومن أنتم حتي يكون لكم عند
ويقول الآخر في تجرؤ الجهلاء علي العلم والفتوي:
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا
بيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتي بدا من هزالها
كلاها وحتي سامها كل مفلس
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف