الأهرام
د. هالة مصطفى
ما بين واشنطن وموسكو
مع كل موجة إرهاب يتردد مصطلح «العائدون» من دولة معينة, أى الإرهابيون الذين تدربوا وقاتلوا فى صفوف التنظيمات المتطرفة المسلحة فى بلد ما يشهد صراعات أو حروبا أهلية، ثم عادوا إلى أوطانهم الأصلية لينفذوا فيها ما تمرسوا عليه من قتل وترويع وتفجير واغتيالات وحرب عصابات. ففى الثمانينيات كانت قضية «العائدون من أفغانستان» وفى التسعينيات «العائدون من ألبانيا» الذين شاركوا فى حرب البلقان تحت اسم «المجاهدين» دفاعا عن مسلمى البوسنة, ومع الألفية الجديدة توالت التسميات والعائدون من مختلف مناطق الصراع فى الشرق الأوسط كاليمن والعراق, وأخيرا تكرر نفس الأمر وأصبحنا أمام العائدين من سوريا الذين شاركوا فى الحرب الدائرة هناك وبايعوا تنظيم داعش الإرهابي, الذى يتخذ من العراق وبلاد الشام كما يُطلق عليها, مرتكزا جغرافيا للانتشار تحت اسم تنظيم الدولة الاسلامية, وكأن هذه الأراضى باتت مقر «الخلافة».

هذه الخاصية تنطبق على تنظيم أنصار بيت المقدس فى سيناء الذى تحول إلى فرع لداعش وكذلك من قاموا بأغلب عمليات العنف المسلح والاغتيالات ضد قوات الجيش والشرطة والمدنيين وتفجير الكنائس واستهداف الأقباط عموما, بعبارة أخرى أصبحت الحرب السورية سببا لتزايد الإرهاب فى المنطقة وفى مصر.

صحيح أن مواجهة الإرهاب تتطلب بالأساس المواجهة الفكرية للأفكار المتطرفة بالإصلاح الدينى والتعليمى والثقافي, وبتفعيل دولة القانون تكريسا لمبدأ المواطنة, ولكن ليس هذا ما يتوقف عنده المقال, فقد كُتب وقيل فيه الكثير حتى لم يعد هناك ما يُضاف, وللأسف لم يحدث شىء ملموس على أرض الواقع, وإنما التوقف هنا عند الأبعاد الإقليمية والدولية لظاهرة الإرهاب, التى تجعله أداة للتوظيف والاستخدام فى صراعات أكبر بما يضمن استمرارها واستفحالها, فهكذا كانت البداية عندما سمحت حكومات القوى الإقليمية المتحالفة مع الولايات المتحدة بإرسال كوادر وأعضاء من التنظيمات الإسلامية السنية المسلحة (كتنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية فى مصر) للقتال ضد السوفيت والحكومة الموالية لهم فى أفغانستان إبان الحرب الباردة, وكان ذلك جزءا من الإستراتيجية الأمريكية فى مواجهه الاتحاد السوفيتى آنذاك, ثم أعيدت التجربة وكأنها نسخة طبق الأصل بعد الغزو الأمريكى للعراق للحد من تزايد النفوذ الإيرانى والشيعى فيه, وهو ما يتكرر فى سوريا المتصدرة المشهد الآن, والتى فقدت كثيرا من مقومات «الدولة» لا سيادة كاملة على أراضيها، ولا شرعية حقيقية لنظامها الحالي، وأضحت فى المقابل ساحة مفتوحة لكل التنظيمات المتطرفة السنية والشيعية التى تحركها وتدعمها مختلف دول الإقليم وفق أجنداتها الخاصة, والأهم أن سوريا ذاتهاـ كبلدـ أصبحت رقما محوريا فى معادلة القوة والتنافس بين أمريكا وروسيا, ليس فقط على مستوى الشرق الأوسط وإنما على امتداد العالم، وتحديدا فى مناطق النفوذ القديمة للاتحاد السوفيتى، أى المحيط الجغرافى لروسيا وأوروبا الشرقية, وهى صورة أخرى مصغرة لما كان عليه الوضع زمن الحرب الباردة.

سبقت موسكو واشنطن فى السيطرة على سوريا بتدخلها العسكرى المباشر مثلما فعلت فى أوكرانيا بضمها لشبه جزيرة القرم بالقوة, أنقذت نظام بشار مرتين, واحدة عندما ضمنت الاتفاق مع الغرب والولايات المتحدة على نزع أسلحته الكيماوية فى 2013 درءا لضربة عسكرية أمريكية محتملة, والثانية بقواتها القتالية فى معركة حلب الشهيرة التى حققت نصرا ملحوظا للنظام بعد استرداده المدينة, شكلت حلفا أمنيا وعسكريا قويا (محور روسيا سوريا إيران وما يتبعها من ميليشيات) حصلت من خلاله على مكاسب مهمة, قاعدة بحرية وأخرى جوية، وتحكم فى شكل التسوية السياسية المنتظرة للصراع, وورقة ضغط دولية للحفاظ على مكاسبها فى مناطق نفوذها الأخري.

لا شك فى أن عهد أوباما وفر مناخا ملائما لترسيخ الدور الروسى فى الأزمة السورية, ليس فقط لموقفه السلبى أو المتردد حيالها, ولكن لأن السياسة الأمريكية وقتها كانت ترى ضرورة فى تحقيق توازن بين معسكرى السنة والشيعة فى المنطقة، وهو ما أسفر عن توقيع الاتفاق التاريخى مع إيران حول سلاحها النووي, والتغاضى عن توسيع نفوذها ووجودها فى سوريا وفى المنطقة ككل, وهو ما أعتُبر توافقا ضمنيا مع السياسة الروسية.

أكثر من ذلك ساد الاعتقاد أن إدراة ترامب ستكون مثالية لانفراد «روسيا بوتين» بوضع قواعد اللعبة وشروطها بحكم ما أعلنه الرئيس الأمريكى الجديد مرارا وتكرارا حول أهمية التعاون معها فى حل القضايا الإقليمية وربما الاعتماد عليها فى الأساس, إلى أن جاءت الضربة العسكرية الأمريكية ضد قاعدة الشعيرات الجوية بعد اتهام صريح لبشار باستخدام السلاح الكيماوى المحرم دوليا ضد شعبه.

الواقع, وعلى الرغم من محدودية هذا الإجراء, إلا أن رمزيته ودلالته تتضمن عددا من الرسائل ليست موجهه بالقطع إلى النظام السورى وحده, وفى مقدمتها تخلى أمريكا عن سياستها السابقة بشأن عدم التدخل العسكرى فى سوريا, بل إن الأمر على هذا النحو سيكون مرشحا للتصعيد وقد يستتبعه وجود قوات أمريكية أكبر أسوة بالأطراف الأخرى الموجودة على الأرض, والأهم أنه أول اختبار عملى لوضع إستراتيجية ترامب الجديدة الخاصة بأولوية مواجهة إيران موضع التنفيذ, أى نزع أهم أوراق الضغط التى يمتلكها بوتين بضرب حليفيه (سوريا وإيران), ومن هنا جاء رد فعل روسيا الغاضب واسخدامها حق الفيتو فى مجلس الأمن ضد مشروع قرار أمريكى ــ بريطانى لإدانة النظام السوري, وبغض النظر عن التفاصيل فقد تغيرت موازين القوى وأصبح حل الأزمة أكثر تعقيدا, فمن قبل كان الهدف المشترك والرئيسى هو مواجهة داعش, الآن أصبحت القضية هى إيران وتنحية بشار عن السلطة, وليس هذا بالخلاف الهين, فإما أن يقود إلى صدام بين موسكو وواشنطن، أو إلى صفقة سياسية بينهما ذوهو الأرجح - لتقاسم النفوذ سواء فيما يتعلق بسوريا أو غيرها من المناطق.

لا أحد يعرف ماذا سيكون مصير الدولة السورية المنهكة, وهل ستبقى أم تختفي، ولا متى ستبدأ المواجهة الحقيقية لإرهاب داعش.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف