جمال سلطان
معنى الصمت أمام تصريحات البيت الأبيض المهينة
في مقال الأمس كانت آخر الأخبار التي وصلت حتى كتابة سطوره تتحدث عن الاهتمام الكبير من الولايات المتحدة بإخراج "آية حجازي" من مصر بأسرع وقت حتى أنها أرسلت لها طائرة عسكرية ورافقتها مسئولة رفيعة بالبيت الأبيض ، وقلت أن دلالات ذلك محرجة للنظام السياسي المصري وفيها إدانة واضحة ، كما تحمل رسائل فقدان الثقة في العدالة والأمان الإنساني بمصر وفي المؤسسات واستقلالها ، غير أن ما حدث بعد ذلك كان أسوأ بكثير مما سجلته في المقال ، حيث قرر الرئيس الأمريكي شخصيا أن يستقبل الناشطة المصرية في البيت الأبيض في يوم وصولها ، ويلتقط الصور معها وهي تجلس بجواره على الكرسي نفسه الذي جلس عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أسابيع ، وتم توزيع الصور على وسائل الإعلام المختلفة ، ليس هذا فحسب بل إن المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض "شون سبايسر" قال في مؤتمر صحفي أن إطلاق سراح المواطنة المصرية "آيه حجازي" كان بتدخل مباشر من ترامب ، كما قال أن الرئيس الأمريكي كان حاسما مع السيسي وهو يوضح له أهمية إخلاء سبيل آية التي كانت تنتظر محاكمتها أمام القضاء المصري وقتها .
أن تقول الواشنطن بوست وغيرها من وسائل الإعلام الأمريكي أن "تحرير" الناشطة المصرية من سجون مصر كان بتدخل مباشر من الرئيس الأمريكي وبعد مفاوضات وصفت بالهادئة بين الرئيسين ، دون أي اعتبار لفكرة المؤسسات واستقلالها والقضاء وحياديته ، هذا يبقى في نطاق الاجتهاد الإعلامي الذي يمكن للقيادة المصرية تجاهله ، أو إدارة الظهر له ، رغم خطورته ، ورغم أن العالم اعتاد على أن ما يقوله الإعلام الأمريكي ـ عادة ـ لا يحمل على مثل تلك السهولة ، ولكن المشكلة الآن أننا أمام تصريح رسمي أمريكي من البيت الأبيض يقول نفس الكلام ويتحدث بالفم الملآن أن إطلاق سراح "آية حجازي" كان بتدخل (أجنبي) مباشر من الرئيس الأمريكي ، بل يوحي بكلام خشن للغاية عندما يقول أن ترامب كان "حاسما" مع السيسي في هذا الموضوع ، وهو كلام مهين جدا وجارح لأي قيادة سياسية .
أن تبدو القيادة المصرية علنا في صورة من تتلقى التوجيهات "الحاسمة" من قيادات أجنبية ، أمريكية أو غير أمريكية ، لكي تتخذ قرارات تمس "سيادة" مصر الدولة والوطن والمؤسسات والمواطنين ، ويصمت المسئولون المصريون أمام هذا الكلام ، فهذا يعني أننا وصلنا إلى مستوى غير مسبوق من الانحدار ، وينبغي أن يصدر على الفور بيان رسمي مصري ، من رئاسة الجمهورية وليس من وزارة الخارجية ، يرد على هذه التصريحات ، بل وينفيها شكلا ومضمونا ، وبلغة واضحة وحاسمة ، كما أن مسئولية الرئاسة هي حماية كرامة سلطات الدولة ، وخاصة السلطة القضائية ، التي تشير التصريحات الرسمية الأمريكية إلى أنها تتلقى تعليمات وتوجيهات سياسية ، ليس فقط ، بل وبناء على تدخلات أجنبية في شئون القضاء المصري ، هذه اتهامات لا يصح السكوت عليها ، وينبغي أن يتم التعليق عليها بسرعة وحسم ، من رئاسة الجمهورية ومن القضاء المصري نفسه أيضا ، لأنها غمز ولمز يتعلق باستقلاله ونزاهته .
واقعة "آيه حجازي" وما جرى فيها ، من أول القبض عليها هي وزوجها وسجنها ثلاث سنوات احتياطيا وتعريضها للهوان والإذلال واتهامها باتهامات جارحة ومدمرة للسمعة والكرامة مثل الاستغلال الجنسي للأطفال ، وانتهاء بصدور حكم ببراءتها ومغادرتها البلاد فورا واستقبال الرئيس الأمريكي لها مطيبا لخاطرها ومكرما لها ، بينما لم يستقبلها في بلدها مصر حتى رئيس مجلس محلي ليطيب خاطرها ويغسل عنها مرار السنين ، هذه الواقعة ولدت في نفوس ملايين المصريين قدرا من المرارة والإحباط والحزن ما يكفي العالم كله ، وما وصلني من رسائل وتعليقات تمرضك فعلا من فرط الحزن والقهر والإحساس بهوان المصري في وطنه المستباح .