كتاب "البحث عن فارس" الذي صدر ضمن مطبوعات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي "2016" يمثل خلاصة جهد جيد وجاد وجدير بالقراءة فعلاً.
إنه اضافة للمكتبة السينمائية العربية. ومؤلفه الزميل محمود عبدالشكور ناقد هادئ النبرة يتميز بـ "بروفايل" متواضع يتجنب لفت الأنظار ولا يسعي إلي ترويج نفسه أو مقالاته ولا إحاطة شخصه بالصخب. إنه من النقاد الذين أحرص علي قراءة ما يكتبه ولا أجد غضاضة في الاعتراف بإعجابي بمقالاته التي لا شك تضيف إلي قارئها.
وفي كتابه "البحث عن فارس" يصحبنا إلي عالم مخرج من أحب المخرجين المصريين إلي نفسي وأكثرهم عذوبة. ذلك لانه فنان صاحب رؤية قبل ان يكون صنايعي. وقد أحب السينما ووقع في غرامها وصنع من عشقه لها 24 فيلماً روائياً طويلاً بعضها يدخل ضمن أفضل الأعمال في تاريخ السينما المصرية. وقد صنع بهذه الأفلام المتميزة عالماً قائماً بذاته ينبض بالحياة. تسكنه شخصيات مصرية أليفة. مُشبعة بالحيوية ولا تملك إلا ان تتذكرها وتحبها وتسعد في كل مرة تشاهدها وتستعيد معها أوقاتا من البهجة هي أفضل ما يمكن ان توفره السينما الجميلة لمحبيها.. فشخصيات محمد خان مغروسة في قلب الواقع ولكن بعد صياغتها وإعادة تكييف علاقتها بالمكان وسبر أغوارها - إنسانياً - ومن زوايا مختلفة وعبر تفاعل التفاصيل العادية ولكنها المدهشة التي تبدو وكأنك تراها لأول مرة.
والكتاب ليس مجرد تجميع للمقالات التي سبق نشرها مثل معظم الكتابات الاحتفالية التي تصدر من خلال المهرجانات وتبدو في المحصلة الأخيرة متسرعة وبلا قيمة. ولكنه زيارة متأنية لعالم محمد خان.
يقول الناقد: عدت لمشاهدة كل أفلام محمد خان الروائية الطويلة وعددها أربعة وعشرون فيلماً. وكذلك فيلمه القصير الأول الهام للغاية "البطيخة" لكي اكتشف مفاتيح عالم محمد خان وأسلوبه. ولكي أكتب بشكل أعمق وحتي يكون الكلام مؤيداً بنماذج من تلك الأفلام وليس مجرد تنظير في الفراغ".
هذا الفيلم القصير الأول "البطيخة" يعتبره عملاً أساسياً في فهم عالم محمد خان وملامحه الأساسية وأبرزها واقعيته وهي واقعية ليست خشنة ولا فجة علي الاطلاق وانما واقعية أنيقة متعاطفة. لا تتورط في أحكام أخلاقية حادة؟
محمد خان يهتم "بالإنسان" في المقام الأول وعلاقته بالمكان أو بتعبير عبدالشكور "بالإنسان في المكان" وأفلامه ليست حواديت ولكنها تنقل حالات وأجواء وترسم ملامح شخصيات وظروف وهذا أمر واضح جداً في فيلمه الأول القصير.
وسينما محمد خان تتميز بثراء وتكامل مزدوج بين شريط الصوت والصورة. وكذلك تتميز بتكوينات تشكيلية مبتكرة تجعلك تشاهد الشيء المألوف والمكرر وكأنك تراه لأول مرة.
وما يجعل كتاب "البحث عن فارس" عمل جدير بالاحترام فعلاً النظرة التحليلية المدققة لأسلوب المخرج واختياراته للشخصيات وحتي لأسماء هذه الشخصيات وما تنطوي عليه من دلالات تكشف عن موقف انساني خالص وحتي في اختياراته لعناوين أفلامه.
فمهما كانت الشخصية الواقعية فقيرة أو بسيطة فإنها تحتفظ بالحلم وتدافع عنه وتتمسك به رغم كل شيء. والمثال الأوضح بالطبع في فيلم "أحلام هند وكاميليا".
ويتكرر في أفلام محمد خان اسم "فارس" كبطل وفي حقيقته نقيض لفكرة البطولة. والفروسية في أفلام محمد خان ليس مفهوماً مثالياً مطلقاً منفصلاً عن الظروف والملابسات ولكنه مرتبط بتلك الظروف. أبطاله يحملون لقب فارس لأنهم يقاومون ولأنهم قادرون علي العيش وسط حياة قاسية ولأن فقرهم أو بساطتهم لم تقتل قلوبهم ولم تجعلهم حيوانات رغم اخطائهم ورغم انهم علي هامش المدينة والحياة.
وفي توقفه أمام صورة المرأة في سينما محمد خان يري انها ليست كائناً زائداً عن الحاجة. هي مخلوق له إرادته المستقلة وأحلامه الخاصة. والنساء دوماً قادرات علي الفعل إذا أردن. المرأة في معظم الحالات لديها قوة ذاتية تعبر عن نفسها في مواقف مختلفة.. حتي الشر في أفلام محمد خان إمرأة جميلة ولها سطوة علي قلوب الرجال.
وعن جماليات اللغة البصرية في أفلام محمد خان يلاحظ المؤلف الناقد "أن سينما محمد خان تعتمد بالأساس الكتابة بالصورة ولكن بناء المشهد لديه يعتمد علي عناصر ثلاثة ممتزجة هي الصورة والمونتاج وشريط الصوت. وهناك منذ البداية رؤية بصرية تحقق ثراء في الصورة وفي التكوينات. مع اقتصاد واضح في الحوار. واختزال المعني بعيداًعن أي ثرثرة كلامية أو سردية.
ويتضمن الكتاب تحليلاً تفصيلياً لبعض المشاهد الكاشفة لأسلوبه والتي توضح ان الإخراج السينمائي عملية معقدة للغاية وأنه بدون فهم عميق لكل عنصر ودوره. ثم توظيف كل ذلك في بناء متماسك. لا يمكن الحديث عن وجود مخرج.
ويتوقف أمام مشاهد من أفلام "البطيخة" و"ذهب ولم يعد" و"ضربة شمس" والرغبة وفتاة المصنع إلي جانب انه يتناول هذه الأفلام نفسها بنظرة متأنية ورؤية ثاقبة ومحبة للمخرج وأعماله التي تؤرخ لمرحلة مهمة جداً في تاريخ تطور السينما المصرية.
وتحت عنوان "حكاية وداع" ينعي الناقد المؤلف مخرج كبير رحل فجأة دون ان يقرأ هذا الكتاب الذي أنجزه "بحب يعادل حبي له كشخص وكفنان تعلمت منه الكثير: حب الحياة. والتفاؤل والدقة الشديدة وتقديس العمل والتفاني فيه.