المصريون
د. ابراهيم التركاوى
ما جنته الحضارة الحديثة على بني الإنسان !
لا يستطيع أحد أن يُنكر أثر ما جنته الحضارة المادية الحديثة - حضارة الأنا والتضخم - على الإنسان ، وتوجهاته في الحياة ، فقد صبغت الإنسان - إلا من رحم الله - بصبغتها المادية المتوحشة ، والتي ظهرت جلياً في سلوكه، وطريقة تفكيره ، وأسلوبه في الحياة ، فأصبح الإنسان لا يرى إلا نفسه ، ولا يكترث إلا لما يُشبع جشعه ويُرضي أنانيته ، وإن داس كل القيم ، واغتال جميع المبادئ ، شعاره الدائم : أنا ومن بعدي الطوفان ..!


وفي ظل هذه المادية الطاغية ، والأنانية الطافحة ، قست القلوب فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة ، وصار الناس - إلا من رحم الله - لا يرحم بعضهم بعضا ، حتي غدا الإنسان فريسة لأخيه الجشع من بني الإنسان .. ولا غرو أنْ رأينا مَن يستأنس بالحيوان في الوقت الذي يستوحش فيه من أخيه الإنسان .. ولله درُّ مَن قال :


عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى ** وصوّت إنسان ، فكدتُ أطير !


لقد فطن محمد إقبال - رحمه الله - إلي خطورة هذه الحضارة الحديثة على بني الإنسان ، فقال : " إن شعار هذه الحضارة : الغارة على الإنسانية ، والفتك بأفراد النوع البشري ، وإن شغلها الدائم التجارة . إن العالم لا يسعد بالسلام والهدوء وبالحب البريء النزيه والإخلاص لله إلا حين تنهار هذه الحضارة الجديدة" - يقصد أن تنهار في جانبها الغائي المادي ، لا في جانبها الإيجابي للبشرية - ، ويبيّن في موطن آخر خطورة هذه الحضارة علي أخلاق الإنسان ، فيقول : " صدقوني ، إنّ أوروبا هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسان "!


يصوّر ( أكبر حسين الإله آبادي ) الشاعر الهندي – كما ذكر ذلك ( أبو الحسن الندوي ) – حياة الإنسان المهدّدة - في أوائل القرن العشرين – في ظل هذه الحضارة الحديثة ، فيقول :


" إن الحياة لم تكن أضيع عند الأسود المفترسة في المآسد ، والذئاب الضارية في أرضها ، منها في أشد الشوارع ازدحاماً ، وأكثر الأسواق عمراناً في كبريات مدن أوروبا وأمريكا ، وأرقي مراكز العلم والنور ، والحضارة والعمران ، والأمن والنظام ، في وسط الزحام أمام الشرطة والجنود . ففي نور الشمس في النهار وفي نور الكهرباء في الليل – والفرق بينهما قليل – يُتخطّف الناس ، وتُهتك الحرمات ، وتُنهب الأموال ، ويُقطع الطريق ، وتهرب الشيوخ والشبان ، فضلا عن المتاع ، فضلا عن الأطفال .. "!


وأردف الشاعر الهندي كلامه بنماذج لجرائم واقعية ارتكبت – في أرقى البلاد حضارة وعمرانا - ، تمثّل غاية القسوة الإنسانية ..


ويبقي السؤال : إذا حدثت هذه الجرائم الوحشية ، في بلاد تحكمها المادية الطاغية ، فما المسوّغ أن يُوجد بعض نظائرها في بلاد - الأصل فيها - يحكمها الخلق والدين ؟!!


وإذا تخبّط إنسان الغرب وانحرف عن غايته ، نتيجة لفلسفته المادية ، فما عذر إنسان الشرق إذا تاه عن غايته ، وانغمس في المادّية ، وقد سطعت في بلاده شمس الهداية الربّانية ؟!


إنّ الإنسان لا تزكو نفسه ، ولا تصفو روحه ، ولا يرقى خلقه ، ولا يسمو فكره ، إلا إذا انقاد بوحي السماء!


" أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " (الأنعام ، 122)


وما زلت أقف طويلا متأملا – وأنا أرمق عن كثب ما آل إليه حال الإنسان ، في ظل هذه الحضارة الحديثة - ما قاله أنس - رضي الله عنه - : ما خطبنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - إلا قال : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له " (حديث صحيح ، رواه أحمد في مسنده).


وما أجمل ما قاله ( محمد إقبال ) :


إذَا الإيِمَانُ ضَاعَ فَلَاَ أَماَنُ ** وَلَاَ دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحيِّ دِيْنَا
وَمَنْ رَضِيَ الحَيَاةَ بِغِيْرِ دِيْنٍ ** فَقَدْ جَعَلَ الفَنَاءَ لَهَا قَرِيْنَا
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف