محمد السعدنى
المحاضر والتجربة والحكاية
الحكاية شهيرة ومعروفة خصوصاً لدي أولئك المنخرطين في مجالات التنمية البشرية، وهي ذات مغزي ودلالة وأبعاد إنسانية قبل تماسها مع عالم السياسة الذي لا مهرب منه إلا إليه.
تقول الحكاية: في إحدي ورش العمل التدريبية في إحدي الجامعات كان الحضور قرابة خمسين متدرباً، وكان التكنيك »أي الطريقة» التي اتبعها المحاضر بذكاء هي القيام مع المتدربين بالتجربة العملية أولاً ثم تحليل نتائج التجربة للوصول إلي مستهدفاته التي يريد ترسيخها في عقولهم. قام المحاضر بإعطاء كل متدرب بالونة وطالب كل منهم أن ينفخها ويربطها، ثم يكتب بالفلوماستر اسمه عليها، جمع المحاضر البالونات ووضعها في غرفة صغيرة فملأتها تقريباً.. طلب من الحضور أن يدخلوا الغرفة وأن يحاول كل متدرب خلال خمس دقائق أن يجد البالون الذي يحمل اسمه، اندفع المتدربون جميعاً للغرفة تزاحموا وأحدثوا جلبة حتي انتهي الوقت ولم يستطع أي منهم أن يجد البالون الذي يحمل اسمه.. هنا أشار عليهم المحاضر أن يأخذ كل متدرب أي بالون أيا كان الاسم الذي يحمله ثم يعطيه لزميله الذي يجد اسمه مكتوباً عليه. هكذا تمت العملية بسرعة ونظام وكان مع كل متدرب البالون الذي يحمل اسمه، وضج الجميع بالضحك والسعادة.
بادرهم المحاضر، الآن تضحكون في سعادة ولعلكم تكتشفون معي دلالة التجربة ومغزاها، فإذا اعتبر كل منا أن بالونته تمثل سعادته التي كان يبحث عنها، فماذا حدث؟ ببساطة، عندما كنا نبحث عن سعادتنا فقط، استحال علينا أن نجدها، ولكن عندما قدمنا السعادة للآخرين منحونا السعادة، فالسعادة هي بما تقدمه للآخر، لمن حولك، لمن تعرف ولمن لا تعرف، لمن يحتاج ولمن يبحث، لمن يساعدك ولمن ينافسك، فيفرح ويبتسم، وعندها تجد سعادتك في ابتسامته. قدم للآخرين سعادتهم يقدمون لك سعادتك.
ولعل المحاضر هنا تماس ربما دون أن يدري مع واحدة من نظريات »دوركايم» في تنظيم العمل، وماكس فيبر في رؤيته للنظام الاجتماعي، وإريك فروم في الإنسان بين الجوهر والمظهر. ماذا أريد أن أقول؟ ببساطة ليس مطلوباً منا جميعاً أن نتعلم وندرس أعقد النظريات العلمية حتي نرتقي بالسلوك العام، يكفي أن يقوم عنا بذلك العمل المعقد طليعة مثقفة تنقله إلينا، فنتمثله ونمارسه، ولعلنا بعدها نقرأ حوله أو نقرأ غيره لأن القراءة في حد ذاتها تؤهلك لتقبل مستجدات الحياة وتحولات العصر وطوارئ الدنيا. القراءة تعطيك عمقاً في الزمن والخبرات والتجارب، بالقراءة تعيش الحياة أطول وأعمق وأجمل، تري الأشياء لا بمنظارك الذي مهما انفرجت زاويته تظل محدودة مقارنة بمناظير أخري أكسبتك القراءة أبعادها الكثيرة المتنوعة. هذا أو تكون رهناً لإعلام هو بالأساس فاقد للشيء الذي ينبغي أن يعطيه، أقصد الثقافة، فإعلامنا في مجمله مسطح خاوي المضمون ببرامج تغيب وعي الناس ولا تنتج إلا التخلف عن العصر والبعد عن الجدية والحداثة.
ولعلي أتجاوز تجربة المحاضر التي حددها في عمومية السعادة وعدواها، وفي جماليات التعاون والتضامن الإنساني وتبادل العطاء واقتسام مشقات المصائر بالبصائر وجميل الضمائر، وأذهب بك إلي شخص المحاضر ذاته، فما فعله مع تلاميذه المتدربين هو علامة علي امتلاكه بصيرة وثقافة وكفاءة وقدرة، مكنته من إتقان واحد من أهم فنون التدريس والتعليم، هو لم يقم بالتلقين واجترار المعارف بالتكرار والتدوير، إنما أعمل فنون التجريب والقياس والتحليل والاستنباط والاستنتاج والاستدلال وموضوعية وعلمية تكوين الأفكار والقناعات. ولعله قدم للمتدربين تجربة لن ينسوها، بدأها لعبة مسلية وانتهي بها نظرية علمية لها أبعادها الاجتماعية ومؤثراتها الإنسانية والأخلاقية، فأنت بعد هذه التجربة لا تتقبل الآخر فحسب بل تشاركه وتتضامن معه وتعملان سوياً بروح الفريق لتحقيق هدف مشترك، ربما جاء بسيطاً في هذه التجربة، لكنك بالقياس عليه يمكنك أن تقدم لمجتمعك ونفسك الكثير والمهم والنافع والجميل.
لقد كان المحاضر في هذه الحكاية ذكياً بأن اختار السعادة مثالاً للعمل المشترك والتفاعل الإنساني، ولعله جاء محقاً رائعاً في اختياره هذا، لأننا في بلادنا المحروسة علمتنا الأيام وتصاريف الأقدار تجارب كثيرة بعد ثورتين، لكنها من أسف رغم انضاجها لمعظم الناس سياسياً أو للدقة خلقت طلباً عاماً علي السياسة إلا أنها كرست لدي الناس بدواعي ضعف الحكومة وعدم كفاءة المسئولين وسوء الاختيارات والانحيازات العامة أن خلاص الفرد مسئوليته وحده، فرأينا من يقتص لنفسه بقطع يد السارق أو سلخ وسحل السارق وتعليقه في إحدي أشجار القرية، أو خطف تاجر الحشيش وقتله جزاء وفاقاً لتجرؤه علي خيانة عصابته وبعضهم من ضباط ومتنفذين في أجهزة الدولة، أو محاصرة قرية في الأقصر طلباً لتسليم أسرة مسيحية لابنتها لبعض المهووسين بالتطرف لتزويجها لمن ادعي إسلامها وإعادة سيناريو »أختي كاميليا» وعدم احترام الدولة وأجهزتها بتسييد قانون الغاب والبلطجة، وإطلاق الرصاص في سوهاج لوقف تنفيذ أحد مشروعات المحافظة، وقبلها التهديد تحت قبة البرلمان بضرب الصحفيين بالجزمة، وعدم تنفيذ حكم لمحكمة النقض بعضوية نائب منذ عام تقريباً وإعادة مناقشة تيران وصنافير بعد حكم نهائي بات بمصرية الجزيرتين، وأخيراً التحرش بالقضاء وخلق مشكلات نحن في غني عنها ويستخدمها الغرب للتشهير بنا وأننا مجتمع ضد حقوق الإنسان ولا يحترم القانون، بما له من تداعيات علي التنمية والاستثمار.
بهذا كله وغيره تولدت قناعة خاطئة وخطيرة لدي الناس بأنك »تاخد حقك بإيدك» وأن الخلاص فردي وليس جماعياً. وهكذا جاءت أهمية حكايتنا ومحاضرنا والتجربة العملية في مؤداها ومضمونها: »أن قدموا السعادة للآخرين، يقدموا لكم في المقابل سعادتكم»، وإذ قدمت لك القصة وما وراءها فهذا دوري وتلك رسالتي، بقي عليك دورك ورسالتك.