جمال سلطان
الإرهاب في خدمة الفاشية والاستبداد .. والعكس صحيح
عندما قام أحدهم بعملية إرهابية قبل يوم واحد من الانتخابات الرئاسية الفرنسية ، وتبنت داعش العملية ، كان هناك إجماع بين المحللين على أن العملية هي خدمة سياسية حاسمة لمرشحة اليمين المتطرف "مارين لوبين" ، وقد نجحت لوبين بالفعل في تحقيق المفاجأة لتفوز في الجولة الأولى وتصعد لجولة الحسم أمام مرشح الوسط "إيمانويل ماكرون" ، وهناك اليوم إجماع آخر على أن جولة الإعادة الحاسمة ستكون رهينة لأي عملية إرهابية كبيرة ، يمكنها أن تقلب المزاج العام وتحول دفة الأمور إلى مرشحة اليمين المتطرف التي تعد مواطنيها بالتحرير الثاني لفرنسا ودحر الإرهاب وجلب الأمن والأمان للبلاد وطرد المهاجرين ومحاصرة المساجد .
بعض المحللين ذهب إلى "أصابع" الاستخبارات الروسية في العبث بالتركيبة السياسية الأوربية والأمريكية وتفكيكها ، وهناك اتهامات شائعة في هذا المجال وبعضها يناقشه الكونجرس الأمريكي نفسه وبرلمانات أوربية أخرى ، أي أن الأمر جد لا هزل ، غير أن الذهاب إلى فرضية وجود أيادي روسية في تحريك ضربة إرهابية في العاصمة باريس لخلط أوراق الانتخابات ، يعني ما هو أخطر ، ويعني أن هناك ـ في الغرب ـ من يرى أن الإرهاب أصبح أداة تستخدمها القوى العظمى لخلط الأوراق وتحقيق أهداف سياسية باحتراف ودقة .
لا يعنينا الدخول في تفاصيل تلك الشكوك ، ولكن نتوقف عند الحد الأدنى والقطعي فيها ، وهو أن الإرهاب أصبح يستخدم اليوم كأداة سياسية للأنظمة ، ليس فقط في العالم الثالث وإنما أيضا في أوربا ، لصناعة شرعية مزيفة للسلطة أو لسياسيين مغامرين ، تصطنع الخوف في قلوب المواطنين ، ثم تتقدم بوصفها الضامنة لأمنهم ، والقادرة على حمايتهم من الإرهاب ، هذه اللعبة هي التي يدخل من بابها الطغيان والاستبداد في العالم الثالث الآن أيضا ، كما أنها هي نفسها التي يصعد من خلالها الفاشيون واليمن المتطرف المغامر في أوربا ، والذي بات يهدد الديمقراطيات الغربية وإرثها العريق ، ويمهد الطريق لظهور الشعبوية النزقة المتطرفة .
وفق القاعدة البديهية ، أن لكل فعل رد فعل مكافئا له ، ووفق ما نراه عيانا من تجارب الواقع الحالي ، فإن عكس ما سبق هو صحيح قطعا ، حيث يؤدي ظهور الفاشية وعلو كعب اليمين المتطرف في السياسة الدولة إلى تغذية الإرهاب ومده بالغذاء الروحي والفكري الضروري الذي يعزز من دعايته بأن الإسلام مستهدف وأن الغرب يستحضر الروح الصليبية وأن الديمقراطية هي مجرد غطاء مزيف يخفي وحشية الاستعمار الغربي التي لم تزول وإن كانت قد تشكلت بصيغ أخرى ، وفي الشرق يمثل صعود الديكتاتوريات وتمكينها وسيطرتها على مقاليد الحكم مددا مماثلا للإرهاب ، يغذيه ويصنع له البيئة المثالية لتمكينه من استقطاب وتعبئة أفواج جديدة من الشباب المشبوب عاطفة وكراهية وإحباطا ، وبالتالي تزيد رقعة الإرهاب وتتعاظم وتتسع ، وتصبح ضرباته أكثر خطورة ورعبا ، وأكثر تأثيرا ، وكلما زادت الضربات الإرهابية وتعاظمت كلما انتشر الخوف أكثر ، وهو الخوف الذي تستثمره سلطات الاستبداد والتجبر لتبرر المزيد من دكتاتوريتها وقمعها للشعوب ومحاصرة أي قوى معارضة وسحقها ، وهكذا ، تصبح الشعوب فريسة دائرة مغلقة للخوف ، بين الفعل ورد الفعل .
من حسن الحظ أن التيار الأعم في الغرب ما زال يتمسك بالاعتدال وينفر من التطرف ، وما زالت الفاشية محاصرة في نطاقات شعبية محدودة وغير قادرة على تحقيق اختراقات حاسمة ، كما أن من حسن حظ الشرق أن الديكتاتوريات تعاني الانكسار والاهتزاز بعد الربيع العربي ، وأن الشعوب أصبحت أكثر وعيا في رفضها للإرهاب والفاشية والاستبداد معا ، وهناك قناعات متزايدة في العالم العربي والإسلامي بأن الاستبداد ليس بديلا للإرهاب لأنه هو نفسه وجه للإرهاب فكرا وممارسة ، كما أن الإرهاب ليس البديل للديكتاتورية ، لأنه يمثل أبشع وجوه الديكتاتورية ، كما أن القناعات متزايدة بأن الإرهاب يتغذى على الاستبداد ، وأن الاستبداد يستمد شرعيته من الإخافة من الإرهاب ، أي أن هناك إدراكا متزايدا بأنها لعبة ، باتفاق أو تواطؤ ، مقصود أو عفوي ، بين الطرفين .
الحرية ، وكرامة المواطن ، والتعددية السياسية ، والعدالة الاجتماعية ، والتداول السلمي للسلطة ، ورفع الوصاية عن المجتمع المدني ، وتعزيز استقلالية المؤسسات الرقابية ، والانتخابات الحرة ، وتحجيم تغول المؤسسات الأمنية بمختلف صورها ، وبسط العدالة وتعزيزها ، وسيادة القانون ، هذه هي المنظومة الوحيدة القادرة على تأسيس السلام للبشرية وإنقاذها من المخاطر الثلاث الأعظم حاليا : الإرهاب ، والفاشية ، والاستبداد .