ليس ثم من وصف أنسب للعصر الذى نعيش فيه من «عصر التكنولوجيا». هذا الوصف لا ينقل مجرد عبارة تصف سيطرة التكنولوجيا على الحياة، بل يقدم بيان «حالة عصر»، أصبح الإنسان يعيش فيه داخل التكنولوجيا. إنسان العصر الحالى يعيش داخل شاشة، كانت فى الماضى كبيرة عندما كان مدارها التليفزيون، ثم أصبحت متوسطة الحجم مع ظهور الحاسبات الشخصية، ثم أصبحت «شاشة جيب» عندما وصلنا إلى عصر الموبايل. القسم الأكبر من الحياة يقضيه معظم البشر داخل هذه الشاشة التى جعلت العالم على طرف أصابعهم، انظر حولك «هتشوف وشك عَ الشاشة». من خلال الشاشة تحصل على كل شىء، على الصديق والقريب والبعيد، على التعليم والدواء والكساء، على الضحك واللعب والجد والحب، على الدين والدنيا. الشاشة نافذة لك حين تريد التعبير عن نفسك، وعليك حين تتلقى من غيرك. حياة البشر أصبحت افتراضية بامتياز، خصوصاً بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعى التى حولت الدنيا إلى منتدى كبير.
منذ ثورة 25 يناير وهناك موقف عدائى تبناه البعض من السوشيال ميديا، أو مواقع التواصل الاجتماعى، وبالغ البعض فى أحوال، فوصفوا أحداث الأيام الثمانية عشرة بـ«ثورة الفيس بوك». ويُخيل إلىّ أن هذا الموقف شهد -ولم يزل- نمواً متزايداً خلال السنوات الأخيرة، وقد تبلور بصورة جلية فى بعض التصريحات «الصريحة» التى تردّدت على ألسنة مسئولين خلال الفترة الأخيرة، تتهم السوشيال ميديا بمحاولة إسقاط بعض مؤسسات الدولة. وواقع الحال أن انفجار مواقع التواصل الاجتماعى فى حياة المصريين منذ ثورة يناير وحتى الآن له وجهان: أحدهما إيجابى، والآخر سلبى. الوجه الإيجابى يتعلق بما أتاحته هذه الوسائل من فرص ومساحات متزايدة للتعبير عن الآراء ووجهات النظر التى أحياناً ما تشهد نوعاً من التهميش فى وسائل التعبير الرسمى، تستوى فى ذلك الوسائل الخاضعة لسيطرة الحكومة، أو التى يحوزها رجال المال الخاص. ينظر عدد لا بأس به من المتخصصين إلى مواقع «السوشيال ميديا» كنوافذ للإعلام البديل الذى يقدم الخطاب المهمش داخل وسائل الإعلام التقليدى التى تعكس ما يطلق عليه «الاتجاه السائد»، أو بعبارة أخرى اتجاه المسيطرين على مفاصل القوة داخل المجتمع. وسائل التعبير الرسمى اهتزت بشدة أمام الإعلام الجديد البديل، وبدا ذلك طبيعياً للغاية. فما النتيجة التى يمكن أن نتوقعها لمباراة يتصارع فيها شاب مفتول العضلات فائض القوة مع شيخ هرم يصارع بطرق قديمة عقيمة؟!.
فى المقابل من ذلك لا يستطيع أحد أن ينكر التأثيرات السلبية للسوشيال ميديا، فقد أوجدت لدينا أجيالاً تمتاز بالجرأة، لكنها مشوشة المعرفة، تُجيد التحرك، والنشاط فى جميع الاتجاهات، لكنها تقف مكتوفة اليدين عندما تهدأ وتسكن الأحوال، تجيد الثورة على المشكلات ووصفها وتشخيصها، لكنها بطيئة القدرة على إيجاد الحلول، يدفعها شبابها -فى أحوال- إلى تصور القدرة على إصلاح الكون الفاسد فى زمن يسير، وبأبسط الوسائل، حتى لو كانت تدوينة. فى كل الأحوال لا يستطيع أحد أن يوقف عجلة الزمن وتطور الأيام، ومن العبث أن يتصور البعض أن محاصرة «السوشيال ميديا» يمكن أن تكون حلاً، لأن التكنولوجيا المعاصرة قادرة باستمرار على إيجاد البدائل. الحل فى كلمة واحدة «الاستيعاب» بالمعنى الشامل والكامل لهذه الكلمة!.