نقلت صحيفة "الشروق" الجمعة الماضية عن عصام الفقي أمين سر لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب قوله ان هدفنا معالجة خسائر الهيئات الاقتصادية ووضع حلول لتحسين الميزان التجاري ومعالجة الفجوة بين المصروفات والايرادات وتقليل الانفاق.. مشددا علي ضرورة زيادة موازنتي التعليم والصحة في الموازنة الجديدة.
هذه رؤية جيدة تستحق ان نحترمها ونقدرها.. إلا أن الاخ الفقي اتبعها بتصريح مخيف عن عودة الخصخصة في ثوب جديد أسماه "الخصخصة الصحيحة" زاعما ان هذه الخصخصة هي الحل لمشاكلنا عموماً.
قال: "أي دولة متقدمة لايوجد بها قطاع عام. والخصخصة الصحيحة هي الحل لمشكلات عجز الموازنة ومشاكلنا عموما. ولابد ان يباع بقيمته الصحيحة والمستحقة عكس ما فعل النظام الاسبق بخصخصة أجزاء من القطاع العام بأقل من التكلفة. والاخري تم بيعها ولم يسدد نصف ثمنها.
وهكذا يبشرنا أمين سر لجنة الخطة والموازنة بالعودة إلي فكر الخصخصة الذي كان خدعة كبري في تاريخنا المعاصر.. وتحول إلي أكبر عملية نهب منظم لمواردنا وأصولنا التي هي عماد اقتصادنا.. ولولا ان الله عز وجل قيض لهذا البلد قضاة عظاما ورجالا ونساء شرفاء دافعوا باستماتة عن هذه الاصول وتصدوا لجرائم الخصخصة وانقذوا ما أمكنهم انقاذه لضاعت ثروة مصر وما وجدنا اليوم الاصول التي نبني عليها.
ولكي يقتنع الاخ الفقي وأمثاله بفساد الخصخصة وانتهاء زمانها عليه ان يعود للوراء قليلا.. إلي عامي 2007 و 2008 عندما اجتاحت العالم أزمة مالية طاحنة كانت الولايات المتحدة ضحيتها الاولي في زمن بوش الابن واليمين المتطرف.. فقد كتبت هذه الازمة إقرارا بفشل النظام الرأسمالي بكل مفرداته ومنها الخصخصة.. وبدت حاجة العالم ملحة لابداع نظام بديل.. أو علي الاقل نظام معدل.. يضمن مزيدا من الاستقرار للاسواق.. ومزيدا من العدالة في توزيع الثروات.
في ذلك الوقت ظهرت كتابات عديدة تدعو إلي تغيير قواعد الرأسمالية.. وتؤكد ان الرأسمالية الامريكية انتهت في العالم ولم يعد مقبولا من أحد ادعاء التفوق اللانهائي.. وانه في مجال الابداع الفكري لايحق لكائن ان يضفي القداسة علي انجازه.. أو يزعم انه امتلك الحقيقة التي لاتقبل المراجعة.
وكان من أهم ماصدر كتاب "الالهة التي سقطت" وفيه يشرح المؤلفان لاري ايليوت المحرر الاقتصادي لصحيفة "الجارديان" البريطانية ودان اتيكسون المحرر الاقتصادي في صحيفة "ميل أون صنداي" الاسباب التي أدت إلي الوقوع في براثن الازمة المالية العالمية.. ابتداء من اندفاع ريجان وتاتشر نحو الخصخصة ووصولا إلي بوش الابن وعصابة المحافظين الجدد من حوله.
وكان من الطبيعي ان تتخذ الحكومات الغربية اجراءات تلجم بها الرأسمالية المتوحشة وفاجأت الولايات المتحدة الجميع باجراء دراماتيكي لم يسبق له مثيل.. فقامت بتأميم جزئي لاكبر 9بنوك امريكية.. واعتبر هذا القرار تراجعا عمليا عن النهج الامريكي الثابت في تقديس الرأسمالية بكل ما تحمل من مفردات الخصخصة والسوق الحرة والعرض والطلب.
وعندما جاء أوباما إلي الحكم لم يجد أمامه طريقا للانقاذ غير تهذيب التوحش الرأسمالي باصلاحات تحمل أشكالا جديدة من العدالة الاجتماعية.. وظهرت هذه الاصلاحات في قوانين العمل والتأمين الصحي والمعاشات.
لقد انتهي الايمان الكامل بالرأسمالية في عقر دارها.. وعلينا نحن أيضا ان نسقط الرأسمالية من عليائها وندخل عليها ما يصلح أحوالنا.. ونبدأ من حيث انتهوا.. وبالتحديد نحن في أمس الحاجة إلي قوانين ثورية لتحقيق العدالة الاجتماعية واستبعاد فكر الخصخصة وضبط إيقاع السوق الحرة ومواجهة ارتفاع الاسعار وضبط مؤسسات التعليم الخاص التي تحولت إلي وحش كاسر يأكل ميزانيات الاسرة المصرية وتطوير التأمين الصحي ومظلة التأمينات.