الأهرام
صلاح سالم
جذور التعايش الإنسانى
تحفزنا الزيارة التاريخية التى يقوم بها قداسة الحبر الأعظم البابا فرانسيس الأول إلى القاهرة، ولقاؤه شيخ الأزهر الإمام احمد الطيب،
فى ظل موجات عنف دينى وحوادث إرهاب تكاد لا تتوقف، على التفكير فى تلك المقاربات الجديدة، لقضية الحوار والاختلاف والمغايرة، سواء بين المذاهب داخل الدين نفسه، أو بين الأديان المختلفة، أو حتى بين الأديان والعلمانية، وصولا إلى حال من التعايش الإنسانى والسلم الأهلى. إحدى هذه المقاربات يسميها الفيلسوفان: الأمريكى جون دو كابوتو، ونظيره الإيطالى جيانى دى فاتيمو بـ «الفكر الخافت». والفكر الخافت، كما يفهمانه، هو طريقة فى التفكير تقوم على سلب ونفى المفاهيم، أكثر مما تقوم على التحديد الإيجابى لها، إنه الفكر الذى ينطلق من نزعة نسبية فائقة تسم تيارات ما بعد الحداثة التى يندرج الرجلان فى سياقها، ويقدمان اجتهاداتهما من خلال تنويعاتها المتعددة التى دشنها فلاسفة التفكيك الفرنسيون. تعنى النسبية الفائقة تلك النزعة النسباوية، التى ترفض كل حقيقة وتتنكر لكل مطلق، ليتحول العالم معها إلى فسيفساء من المعانى التى لا مركز لها، حيث تنبع تصوراتنا عن العالم والواقع من أذهاننا نحن، لا من أى حقيقة خارجية، ومن ثم تنفى النزعة النسباوية مطلقية القيم الكبرى كالحق والخير والجمال، فلا الفضيلة ذات معنى إنسانى عام، ولا القيم ذات مغزى كونى شامل، بل إن جميعها وليدة سياقات محلية وخبرات جزئية وأدوار فرعية. وهنا يكاد يصبح كل إنسان مشرعا أخلاقيا لنفسه، فالفضيلة هى ما يراها كذلك، والرذيلة أيضا. وفى اعتقادنا أن هذا الفكر (الخافت) إنما يفضى فقط إلى تعميق التوجهات النسبية للحداثة، وأنه فقط يُعمى على المشكلة من دون أن يقدم حلا لها، بل يقود إلى اغتراب الروح الإنساني، بينما المطلوب وعي جديد يحفظ للحقيقة ممكنات حضورها كاملة، ويتجاوز فى الوقت نفسه وثوقيتها الساذجة التى تعوق تعددية الطرائق التى ينظر إليها من خلالها. ومن ثم فإننا نطالب هنا بإجراء تعديل جزئى ولكنه مهم فى مصطلح الفكر الخافت ليصبح (التفكير الخافت) الذى يحقق الهدف نفسه، أى مد الجذور بين الحقائق المتناقضة، ولكن ليس على طريق دريدا ثم فاتيمى وكوبوتو، فى تمييع تلك الحقائق وتفريغها من جواهرها المؤسسة لها، لتصبح محض نزعات نفسية متشظية، بل عبر توكيدها والتعاطف معها، فيبقى الأبيض أبيض والأسود أسود ولكن مع تخلى كليهما عن أحاديته، والإصغاء جيدا للطرف الآخر، بهدف الفهم وليس مجرد السمع. نحتاج بوضوح إلى تنشيط النزعة النسبية، كمفهوم حداثى، يؤمن بوجود حقيقة قائمة ومركزية كمفهوم مستقل بذاته عن تصوراتنا، مثلما يؤمن بتعدد تصوراتنا عنها. فى سياق تلك النزعة، يصبح ممكنا للشخصية الإنسانية أن تمتلك تصوراتها الذاتية من دون تنازع كبير مع غيرها، فما تحوزه من رؤى ليس إلا تجليات للحقيقة، لا الحقيقة نفسها، لأن الحقيقة المطلقة لا تتعدد، وإن امتلكها شخص واحد لا يمكن لشخص مختلف أن ينال منها نصيبا. ومن ثم يصبح الجميع، عدا شخص/ مذهب/ دين، من أنصار الباطل أيا كان شكله. ومن ثم يؤدى فهم الحقيقة على هذا النحو إلى نزعة مساواتية بين البشر، إذ بقدر ما يطرح الشخص الإنسانى من رؤى ذاتية، يتعين عليه الإيمان بقدرة الآخرين جميعا على طرح رؤى مختلفة. وأيضا إلى حال تسامح داخل كل جماعة ثقافية، إذ لم يعد هناك حاجة إلى استخدام العنف لقمع أى طرف مادام المجال مفتوحا للجميع للتعبير عن رؤاهم، والمشاركة فى تقرير مصائرهم. وهكذا فإن النزعة النسبية لا تعوق اليقين الروحى، ولكنها تؤكد تعدد أشكال الإيمان، وعلى إمكانية بناء تصورات مختلفة عن الذات الإلهية. وهنا يتبدى فارق حاسم لا بد من التوقف عنده بين الرؤية الوجودية والرؤية المعرفية فى قضية الإيمان. فالدين (أ) لدى المؤمن به يمثل جزءا من رؤيته للوجود، أى من هويته الداخلية، التى لا يمكن الانفصال عنها، ومن ثم فالشعور باليقين إزاءه يبقى أمرا طبيعيا. أما هذا الدين نفسه، بالنسبة لشخص آخر يتبع الدين (ب) أو لا يتبع أى دين، فيمثل جزءا من رؤيته المعرفية، خارجا عن ذاته وليس ملتصقا بها، يسعى إلى التعرف عليه باعتباره حقيقة خارجية بالنسبة له، يمكن أن يطرح حولها أسئلة ويفترض لها إجابات، لكن لا يمكن الجزم بصحة افتراضاته عنها، وإلا استحال متطرفا يسقط فهمه المنغلق على معتقدات الآخرين. وهكذا يصبح فهم كل شخص لدينه جزءا من عالمه الداخلى أو رؤيته للوجود، له حق امتلاك اليقين إزاءه، بينما يبقى فهمه لأديان الآخرين بمثابة إدراك معرفى أو جزء من العالم الخارجى الذى لا يمكن امتلاك اليقين بشأنه. هذا الفارق بين الإلهام الوجودي، والإدراك المعرفي، يبدو حاسما فى التوفيق بين أن يمتلك الشخص قدرا من الحقيقة، وأن يؤمن فى الوقت نفسه بحق الآخرين فى امتلاك قدر مغاير منها. وربما تصور أن القدر الذى يملكه من الحقيقة يفوق ما يملكه الآخرون، ولهذا يبقى على دينه، ولكن يصير الاختلاف محصورا فى مجرد الأكبر من أو الأصغر من وتلك هى نسبية الحقيقة. ومن ثم يمكن تحقيق تفاهم دائم ينطلق من تواضع عميق، وإيمان صادق بتوزع أقدار مختلفة من الخير والفضيلة على عديد الأديان والمذاهب، فلا تستحيل الحياة على الأرض نارا حارقة وصراعات دائمة، تسىء إلى صورة الأديان جميعا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف