كمال زاخر
انتصار لمصر وثقافة السلام
كانت التفجيرات الإرهابية الدموية التى استهدفت كنيسة مارجرجس بمدينة طنطا والكنيسة المرقسية بالاسكندرية صبيحة احتفالات المصريين المسيحيين
بأحد «السعف» تحمل العديد من الرسائل التى تنتهى إلى تحقيق هدف واحد «إسقاط الوطن» والقفز مجدداً من قبل الجماعات الإرهابية على السلطة، وكانت تتضمن رسالة إلى الحبر الأعظم البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية (مليار ونصف كاثوليكي) ورئيس دولة الفاتيكان، لإثنائه عن إتمام زيارته المرتقبة لمصر، فإذا بالرجل يبادر عبر لقاء بإذاعة الفاتيكان بتأكيد إتمام الزيارة فى موعدها «ويحمل معه لمصر رسالة سلام» ويرسل برقية تعزية للبابا تواضروس وللمصريين، ويعلن فى قداس الأحد بالقصر الرسولى بروما أنه «يصلى من أجل الذين وقعوا ضحية اليوم فى مصر فى كنيستى طنطا والاسكندرية»، «ويصلى أن يهدى الرب قلوب الذين يزرعون العنف والإرهاب، وأولئك الذين يعمونهم ويهربون الأسلحة لهم» ويسقط فى يد الجماعات الإرهابية المجرمة فيعيدون إرسال رسائلهم الدموية بالهجوم على كمين حراسة دير سانت كاترين، بجبال سيناء، فى تصعيد مدروس، خاصة أن الدير، يقع خارج نطاق الكنيسة المصرية ويتبع الكنيسة اليونانية، وله مكانته التاريخية والدولية، لكن الرسالة لم تصل إلى اعتاب الفاتيكان الذى عاد ليؤكد إصرار البابا فرنسيس على إتمام الزيارة فى موعدها وتوقيتاتها المحددة لها. ومن يقترب من البابا يدرك سر ثبات موقف البابا فهو ينتمى إلى أحد شعوب امريكا الجنوبية (الأرجنتين)، وإلى جماعة رهبانية تتبنى الانحياز للمعوزين والفقراء والطبقات الكادحة والعمل بينهم (الآباء اليسوعيين)، ويتبنى قيم ومبادئ لاهوت التحرير السلمي، الذى يوظف تعاليم المسيح والإنجيل للانتصار للإنسان وحريته واستقلال أوطانه عبر قنوات وآليات المقاومة السلمية. وقد قدم فى سنوات قليلة أعقبت توليه مهمته البابوية (13 مارس 2013) تطبيقاً عملياً لكل ما يؤمن به من قيم ومبادئ، فهو يرفض كل مظاهر الفخامة التى تفرضها الإجراءات البروتوكولية الفاتيكانية، وفى كل تحركاته داخل روما وخارج إيطاليا فى المحافل الدولية استخدام السيارة المصفحة المخصصة له ويستبدلها فى إشارة مهمة بسيارة صغيرة إيطالية الصنع، ويمارس شعيرة «غسل أرجل المصلين» التى تعرفها الكنيسة ضمن طقوس «خميس العهد» الذى يسبق الجمعة العظيمة، ويذكر أنه قام بهذا الطقس فى احد السجون، وتصادف فى مرة أخرى أن كان بين الحضور فتاتان مسلمتان، فقام بغسل أرجلهما، ليؤكد قيمة إنسانية غابت كثيراً، ويؤكد من خلالها الإصرار على كسر طوق الكراهية الذى يؤسس للإرهاب والصراع. ولا يتوقف البابا عن تأكيد أن «زمن الشهداء لم ينته».
وجاءت كلماته قاطعة «فى الكنيسة أعداد كبيرة من الرجال والنساء الذين يتعرضون للوشاية، ويضطهدون، وتقتلهم الكراهية للمسيح: فمنهم من قتل لأنه كان يعلم المبادئ المسيحية، ومنهم من قتل لأنه كان يحمل الصليب. وفى عدد كبير من البلدان، كانوا ضحايا الوشاية وتعرضوا للاضطهاد، وهم إخوتنا وأخواتنا الذين يتألمون فى زمن الشهداء». ولا يتوقف عن العودة لترسيخ «ثقافة التلاقي» بدلاً من ثقافة التنابذ والخلافات، ويرى أن «السلطة الحقيقية هى فى الخدمة»، ويرفض بشكل قاطع الفصل بين فعل الإيمان وفعل المحبة، لذلك يتبنى التركيز على البعد الاجتماعى للإنجيل، كما جاء فى رسالته البابوية (فى نور الإنجيل). وقد تأثر البابا فرنسيس باللاهوت الشرقى فى أنسنة التعليم الروحى واتساع الثقة فى رحمة الله فيقول «إن الله لا يملّ من أن يغفر لنا خطايانا، ويسمعنا كلمات رحمته التى تغير كل شيء، ...، لا تكفوا أبدًا عن طلب المغفرة من الله، لا توجد خطيئة لا يمكن لله أن يغفرها إن نحن التجأنا إليه»، «لندع رحمة الله تجددنا.» ويرى أن الأخلاق «إجابة ودعوة من الإنسان لرحمة الله»: «ليست الأخلاق مجرد جهد تقنى صادر عن إرادة فحسب، بل هى مسئولية تجاه رحمة الله، الأخلاق لا تسقط أبدًا بل دومًا تنهض من جديد». بل تأثر بالنسق المعيشى للرهبنة الشرقية حتى أنه قلص مساحة سكنه الخاص «قلايته بحسب تعبير الرهبنة المصرية». ولم يتوقف الأمر عند هذا بل أكد منذ اللحظة الأولى لتنصيبه «أن الكنيسة الكاثوليكية تحترم جميع الأديان الأخري، التى تحاول الوصول إلى الله والإجابة عن الأسئلة الوجودية بالنسبة للبشر، وترجم هذا فى التواصل مع المؤسسات الدينية غير المسيحية بشكل فاعل وإيجابي، يتجاوز الأشكال البروتوكولية، والدعائية، وليس بعيداً عن هذا فتحه قنوات اتصال حقيقية مع مؤسسة الأزهر الشريف ووصل ما انقطع بينها وبين الفاتيكان، عقب المحاضرة الملتبسة للبابا الأسبق بندكت الثامن عشر، ليجيء البابا فرنسيس ليعيد وصل الحوار المسيحى الإسلامى دون حساسية ودون شروط مسبقة، وهو الأمر الذى لاقى قبولاً واستجابة من الأزهر الشريف. لهذا تكتسب هذه الزيارة أهمية قصوي، فى الفضاء الغربى بالأكثر، لما لهذا الرجل من ثقل ومصداقية، ليس فقط لموقعه الدينى ولكن لما عرف عنه من صفات وما يتبناه من رؤى تنويرية سلامية انسانية، الأمر الذى ينعكس بالضرورة على علاقة مصر بالغرب على مستويات متعددة شعبية ورسمية، تتطلب قراءة وحراكاً من المؤسسات السياسية والمجتمعية والدبلوماسية المصرية للبناء عليها وتعظيمها، لتفكيك التحركات التى تسعى فى اتجاه مضاد إلى عزل مصر عن العالم.
فنجاح زيارة البابا وما تسفر عنه من نتائج تفرزها لقاءاته سواء مع الدولة أو الأزهر والمؤسسات الإسلامية أو مع الكنائس المصرية، سوف تنعكس ايجاباً على تقليص مساحات الصراعات الدينية والمذهبية، وتسهم فى مواجهة الكراهية التى صارت عنوان عالم اليوم، وتعم وضع المؤسسات الدينية ومؤسسات التكوين على الطريق الصحيح لتنتبه لمهمتها التى حُملت بها، وتغادر محطات السياسة التى تخايلها حيناً، ليسترد العالم سلامه وينتبه لبناء مستقبل يعيد للبشرية سلامها ويحقق للإنسان حياة أفضل. نعود فنؤكد أن هذه الزيارة فى هذه اللحظة تحديداً تحسب انتصاراً لمصر السلام وانتصاراً لقيم الصمود فى مواجهة الكراهية وتأكيد قيمة ومكانة مصر، التى تفتح قلبها وعقلها لضيفها الكبير وما يحمله من رسالة.