الأهرام
بهاء جاهين
المخزنجى.. صياد المعانى (2)
مازلنا نتحدث عن نفس الكتاب للمبدع الكبير محمد المخزنجي.فى المقالة السابقة قرأنا معاً النصف الثانى من الكتاب: الجزء الذى حمل عنوان «البحث عن حيوان رمزى جديد للبلاد»؛ أما النصف الأول, الذى ذكرناه عبوراً الأسبوع الماضى ولم نتحدث عنه، فهو رواية قصيرة بعنوان «بيانو فاطمة». الآن ننتقل من الهجاء السياسى الاجتماعى الساخر إلى زقزقات الحب، مع الاحتفاظ بالاتزان والموضوعية وحس الدعابة والمفارقة والرؤية المركبة والنزوع إلى الرمز فى العملين، فالرومانسية فى «بيانو فاطمة» ليست ساذجة؛ وليست رومانسية الحب والغرام، وإن كان هذا أحد عناصرها. تحكى هذه الرواية المنمنمة عن بيانو يستشعر الهزات الأرضية قبيل حدوثها، يبدأ الحكى بخبر نشرته إحدى الجرائد عن بيانو فى مدرسة ببنها ترتعش أوتاره ويتصاعد صوتها وهو مغلق ولم تمسسه يد بشر، ثم بعدها بدقيقة أو اثنتين تحدث هزة أرضية من توابع زلزال أكتوبر 1992. ثم يخبرنا الراوى ـ الذى هو الكاتب ـ بما أحدثه الخبر فى قلبه من رعشة أوتار، إذ أيقظ فى وجدانه ذكرى حكاية حدثت له فى «كييف» قبلها بأعوام حين كان طالباً للدكتوراه فى الطب النفسي، وعاد بها إلى مصر فى هيئة بيانو. ويحذرنا المخزنجى فى مقدمة العمل من «واقعية» الوقائع المذكورة حتى فى أدب السيرة الذاتية. لذلك فنحن لا ندرى - ولا نبالى - بمدى نصيب أحداث حكايته من الخيال الروائى أو من الحقيقة ، حتى وإن كان كاتبها يعترف لنا بأنه بطل الرواية. وفاطمة فى الحكاية طالبة دكتوراة زميلة، من جنوب لبنان، شيعية، وتقرأ الأدب بثلاث لغات إضافة للعربية. يقول الكاتب أو الراوى إنه وقع فى غرامها، وعاد إلى مصر بذكراها وبآلة بيانو تنازلت عنها له عن طيب خاطر، فاشتراه منها ليحمله هدية لأخيه الأصغر الموسيقيّ. لكنّ سلم بيتهم فى المنصورة لم يستوعب حجم البيانو وثقله، فظل فى مدخل العمارة معرضاً لعبث الأطفال ومجاذيب الشوارع، حتى اضطرا لبيعه..

ولسبب ما، ربما كان الحنين، حين قرأ الكاتب ــ الراوى ــ خبر بيانو مدرسة بنها الذى يسجل إرهاصات الزلازل ظن أنه بيانو فاطمة- رغم أن أخاه أخبره بأنه باعه لمدرسة فى طنطا لا بنهاــ فذهب ليراه: لم يكن بيانو فاطمة، الذى سجّل هزات قلبه، لكنّ المخزنجى فى تعليق ختاميّ لملم كل خيوط الحكاية قائلاً إن هذا البيانو الأبيض - بينما بيانو فاطمة أسود - كان فى جوهره هو نفس البيانو: قرون استشعار روحية جمالية ترصد ما يمور به قلب الأرض, وذرات الكون, وقلوب الناس, وأنامل الطفلة التى بقدرة قادر فى المنصورة عزفت على بيانو فاطمة لحناً فائق الجمال فى دقائق مختلسة، وبكت حين ضبطها الراوى متلبسة بمعجزة الجمال - الطفلة الحافية مقوسة الساقين ذات الأعوام الأربعة، التى تسلل من أصابعها، أو إلى أصابعها، لحن صغير جميل، وتسلل الماء من عينيها وأنفها حين ضُبطت متلبسة به.

فى السطور الأخيرة من الرواية يبسط لنا الكاتب رؤيته التى تشبه إلى حد كبير وحدة الوجود عند المتصوفة: هزات الأرض هى هزات القلب الإنسانيّ؛ هى دورة الكواكب حول الشمس، ودورة الأقمار حول الكواكب, ودورة الإلكترونات حول النواة، ودوران القلب المحب حول المحبوب، والمريدين حول القطب، والطائفين حول كعبة الرحمن. إن الفن- أو البيانو- يسجل كل هذا: أشواق الفرد، وأشواق الشعب، وأشواق الإنسانية، وروح الجمال السارية فى كل شيء.

«بيانو فاطمة» موسيقى من أعذب ما سمعت وقرأت، وفى المقالة القادمة بإذن الله نسمع المزيد من ألحان المخزنجي.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف