صباح الخير
ألفت جعفر
السـت ومائة عام من العظمة
صحبة وأنا معهم

كثيرة هى الكتب التى تحدثت عن «الست» وعظمتها.. اخترنا بعضها.. وربما أهمها.. سطور من حياة الفنانة التى أحببناها.. وعشنا على كلمات أغانيها.


«وحدها.. هى الست: أم كلثوم سيدة الغناء وكوكب الشرق المضىء أو ثومة: حبيبة الملايين، وسيدة القلوب بحنجرتها الذهبية، بحضورها الطاغى وصوتها القادر على إذابة حتى الجليد وبث السحر والمتعة فى أرواح مستمعيها».


وعلى كثرة ما كتب عنها يظل كتاب أم كلثوم وعصر من الفن للأديبة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد هو الكتاب الأهم والأشمل والأكثر تعبيراً عن هذه الأسطورة أم كلثوم أو الست كما وصفها عشاقها الكثر من الشرق والغرب.. حتى قال عنها أحد المراسلين الأمريكان ذات يوم «شيئان فى مصر لا يتغيران هما الأهرامات وصوت أم كلثوم».
وترى صاحبة كتاب «أم كلثوم.. عصر من الفن» الدكتورة نعمات فؤاد أن أم كلثوم باقية بتمامها، وموهبتها باقية لم نفقدها، والحمد لله أن العلم حفظ لنا صوتها بالتسجيل والزمن حفظ موهبتها بالتأصيل، فهى تزداد أصالة ونقاء»، وأنها قد تركت لنا دروساً فى الفن، من فطرتها وذكائها وقوة شخصيتها، وبحثها الدؤوب لكى تحيط نفسها بأساتذة الموسيقى والأدب والفكر، وكانت طفلة من قرية عادية فى ريف مصر، لكنها عرفت كيف تعلم نفسها، وتواصل التعلم من دون انقطاع.. مجموعة القيم هذه باقية ولا ينقص سوى الاستفادة منها. وتؤكد أن أم كلثوم - ملء حياة الناس الآن وستظل، «لأنها تاريخ وأصالة وكلاهما لا يضيع. وهى موهبة، والموهبة خالدة».
• أم كلثوم صياغة مصرية صميمة
أم كلثوم صناعة مصرية خالصة، صاغتها مصر من نفس المنجم الغنى الذى صاغت منه العقاد والزيات والحكيم وطه حسين ومصطفى كامل ومحمد فريد.. إلخ وغيرهم من الرجال والنساء الذين بنوا مصر الحديثة وعلى ذلك فإن قصة أم كلثوم هى قصة مصر أيضاً، وذلك فى محاولتها الجبارة للنهوض الحضارى فى القرن العشرين ولم يكن بإمكان أم كلثوم أن تحقق ما حققته لولا أنها قابلت عظماء عصرها وتفاعلت معهم، فلولا أن مصر كان فيها رجل مثل الموسيقار الشيخ أبوالعلا محمد الذى لم يكن مجرد موسيقار أو مطرب، بل كان واحداً من جيل سيد درويش ممن كانوا يرون أن الموسيقى العربية يجب أن تنطلق إلى آفاق جديدة، وقد مثّل أبوالعلا فى حياة أم كلثوم دور المشجع والحانى والمعلم، فلولا وجود السنباطى والقصبجى وعبدالوهاب وبليغ حمدى والموجى وغيرهم وكذلك رامى ومرسى جميل عزيز وإبراهيم ناجى وغيرهم كثيرون ما كان وجود لأم كلثوم وعصرها الذهبى.
حكايات كثيرة يمكن أن تحكى فى مسيرة أم كلثوم تضيف إلى كتاب عبقريتها وخصوصيتها الكثير.. أروى لكم بعضا منها فى ذكرى رحيلها الأولى بعد الأربعين.
• هدية ليلة القدر!
يقال إن والدها قبيل ولادتها فى طماى الزهايرة، كان يتقرب إلى الرسول بالتواشيح والمدائح ليكون المولود ذكرا ويكون لخالد ـ ابنه ـ أخ وسند، ولكن أراد الله له شيئاً آخر شيئاً أقرب للمعجزة فقد رأى ليلة 27 رمضان (ليلة القدر) حين غلبه النوم فى صحن المسجد، سيدة بملابس بيضاء يشع وجهها نورا وتغطيه لفافة خضراء. وحين فتحها وجد فى داخلها شيئا له بريق فسأل ما هذا؟ قالت: هذه جوهرة وبشرى السعد حافظ عليها، عندما سألها: من أنت؟ أجابت: أنا أم كلثوم ابنة النبى محمد. فكانت أم كلثوم وكانت بالفعل جوهرة وبشرى لمصر كلها.
• السيد أم كلثوم!
فى طفولتها، عانت أم كلثوم من الموقف التقليدى من التعليم، فلم يكن مألوفا تعليم الفتيات فى ريف مصر، ولم يستسغ والدها تعليمها لكلفة التعليم البالغة أربعة قروش فى الشهر. وقد ذكرت أم كلثوم أن ذهابها إلى الكتّاب كل صباح كان حدثا مفجعا يتكرر كل يوم. فكثيرا ما كان «سيدنا» يأمرها هى وبعض زميلاتها بأن تذهب وتساعد زوجته فى تنظيف الحبوب بعد تنقيتها. وكانت أم كلثوم تعطى سيدنا شيخ الكتّاب كل يوم نصف فطيرة أو عود قصب أو برتقالة تأخذها معها من البيت.
«عاشت أم كلثوم عند الخط الرفيع بين الذكورة والأنوثة، ناقمة عليها.
وعند بدايات ظهورها الفنى، كان خصومها يسألون: هل هى بنت أم ولد؟ بل أطلق عليها بعض هؤلاء عبارة «السيد أم كلثوم»، ويمضى نزع الجنس وما يمت إليه بصلة خطوات أبعد، فتتباهى كاتبة سيرتها نعمات أحمد فؤاد بأن المطربة المصرية تفوقت على غريماتها على الرغم من أن الجمال كان سلاحا ماضيا ضدها، ولا تلبث المقارنة الضمنية بالمغنيات، فى هذا الميدان، أن تطل برأسها، فأم كلثوم، «على تطورها مع الأزياء، ظلت إلى أن تزوجت، تلبس الكم الطويل الذى يعجب الجمهور الشرقى، المحافظ منه والمتفرنج. وكان الكم الطويل يخلع وقارا عليها ويجعل فستان السهرة الطويل بطبيعته، كأن طوله مقصود للحشمة. فإذا التقط مصور صحفى صورة لها فى 1929 وهى على الشاطئ تلبس المايوه الأسود، بذلت كل ما يمكن بذله لحمله على إتلاف الصورة، واستخلصت من تلك التجربة المرة أنها، بذهابها إلى البحر، كانت «سخيفة» وأنها لن تلبس ثانية مثل هذه الثياب، فهى فلاحة تتبع «تقاليد شعبها».
• الحرب بالشائعات!
نشرت إحدى المجلات الفنية خبرا تقول فيه إن أم كلثوم قد غادرت قريتها هربا من العار بعدما تعرضت للاغتصاب، وقد شاعت التهمة وترددت حتى أصبحت أشبه باليقين، وفى الوقت الذى فضّل فيه أبوها الهرب عائدا إلى القرية، قررت هى أن تبقى فى القاهرة، وتقبل التحدى، وقررت حتى أن تخلع الثياب الريفية وأن تصبح فتاة عصرية، بل إن الفلاحة تحوّلت حقا إلى أميرة.
• من حضيض رامى إلى عامية بيرم وإمارة شوقى!
فى موقع آخر من كتابها الموسوعى «أم كلثوم عصر من الفن» تكشف دكتورة نعمات أحمد فؤاد رأى بيرم التونسى من أن أحمد رامى قد هوى بأم كلثوم إلى الحضيض، وأن أشد ما كان يغضب بيرم أن أحمد رامى يمد أم كلثوم بالأغانى بلا مقابل فتنعدم حاجتها إلى مؤلفين آخرين.. أما أمير الشعراء أحمد شوقى فكان يعمل لبيرم حساباً كبيراً حتى إنه قال: أخشى على الفصحى من بيرم، فرد عليه بيرم يقول يا أمير الشعر غيرك فى الزجل يبقى أميرك.
• ليلة القبض على أم كلثوم!
قد لا يعرف كثيرون أن أم كلثوم قد خاضت معارك سياسية هددت مكانتها وهددت حياتها أيضاً قبل الثورة حيث ارتبطت بشخصيات سياسية داخل القصر وخارجه، وكان الملك فاروق نفسه طرفا فى هذه المعارك، وقبل الثورة وبعدها كانت لها معارك مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وكان عبدالناصر بنفسه طرفاً فى هذه المعارك، وفى آخر سنوات عمرها كانت لها معارك مع الذين أرادوا انتزاع مكانتها وتنصيب من هن أقل موهبة منها لإطفاء الأضواء المبهرة المسلطة عليها، وإزاحتها عن القمة التى تتربع عليها، وفى كل هذه المعارك خرجت أم كلثوم منتصرة.
فى أثناء الحرب العالمية الثانية اشتدت المنافسة بين دول الحلفاء ودول المحور على أم كلثوم!
وتروى الدكتورة نعمات أحمد فؤاد فى كتابها عن أم كلثوم كما يروى محمد التابعى فى ذكرياته أن الحكومة البريطانية طلبت من مخابراتها العسكرية القبض على أم كلثوم ونقلها إلى لندن خوفا من أن يخطفها الألمان لاستغلالها فى الدعاية لصالحهم، وأكد ذلك مدير الإذاعة المصرية فى ذلك الوقت (سعيد لطفى)، وقال إن محطة الإذاعة البريطانية عرضت عليه سفر أم كلثوم إلى لندن لتسجيل أغنية مقابل مائة جنيه، ولكن أم كلثوم - لحسن الحظ - لم تقع فى هذا الفخ، ورفضت هذا العرض دون أن تعلم الهدف الحقيقى لهذه الرحلة. وفى نفس الوقت أنشأت حكومة إيطاليا سنة 1937 إذاعة لاسلكية للدعاية المضادة لدعاية الحلفاء، وعرضت هذه الإذاعة على أم كلثوم إحياء حفلات خاصة لها ورفضت أم كلثوم هذا العرض أيضاً.
كانت تواجه فكرة إنشائها، وحضر الملك فاروق هذا الحفل مع عدد من الملوك والزعماء العرب، ولم تسلم من المكائد بعد هذا التألق، ولكنها وجدت نفسها فى مأزق ليس من السهل الخروج منه عندما تقرر إقامة حفل زفاف أسطورى لزواج الأميرة فوزية - شقيقة الملك فاروق - من ولى عهد إيران محمد رضا بهلوى الذى أصبح شاه إيران بعد ذلك، لكن الملكة نازلى - أم الملك فاروق القوية المتسلطة التى كانت سيدة القصر فى ذلك الوقت - قررت أن تسير أم كلثوم فى الزفة أمام العروسين وبين الراقصات لأداء الأغانى المعروفة فى هذه المناسبة.. وحاولت أم كلثوم إقناع رجال القصر باستعدادها لإحياء الحفل، ولكنها لا تستطيع أن تسير فى «الزفة» والتى تقوم بذلك مغنية من فرق أخرى، ولم تنج من هذا الفخ إلا بعد أن استعانت بصديقها أحمد حسنين باشا رجل القصر القوى وعشيق الملكة نازلى الذى استطاع إقناع الملكة نازلى بأن هناك من يغنى فى «الزفة» أحسن من أم كلثوم. وفى حفل كانت تغنى فيه أم كلثوم فوجئ الحاضرون بدخول الملك فاروق وجلوسه إلى جانب أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى وارتجلت أم كلثوم تحية للملك فى أغنيتها، وبعد أن انتهت من الغناء طلب الملك إعلان قراره بمنحها وسام الكمال الذى يعطيها لقب «صاحبة العصمة» ويجعلها مساوية فى البروتوكول لأميرات الأسرة الملكية، وأثار ذلك ثائرة الأميرات حتى أن إحداهن أعلنت فى الصحف أنها سوف ترد الوسام الذى منحه لها الملك، وتبعها عدد من الأميرات وزوجات رؤساء الوزارات وأصيبت أم كلثوم بصدمة جعلتها تنطوى على نفسها إلى أن زارتها فى بيتها السيدة صفية زغلول «أم المصريين» وهنأتها بالوسام الذى جعلها مساوية لأميرات أسرة محمد على وحملت إليها أيضاً تهنئة سعد باشا زغلول زعيم الأمة.. وارتفعت بذلك معنويات أم كلثوم واستعادت ثقتها فى نفسها وفى مكانتها.
• أم كلثوم ورامى: كثير من العشق.. قليل من الغضب!
ارتبط اسم أحمد رامى بأم كلثوم ارتباطا وثيقا منذ البدايات الأولى فى العشرينيات من القرن العشرين، وبعد استقرار المطربة الشابة الناشئة فى القاهرة وسطوع نجمها وبواكير حياتها الفنية الحافلة.. وكان للشاعر أحمد رامى الفضل الواضح فى الأخذ بيد الفنانة الواعدة، وفى صياغة ذوقها الأدبى وتكوين ثقافتها الفنية، وتوجيهها لقراءة دواوين الشعر العربى القديم.. فضلا عن كتابة الأشعار الفصيحة والعامية المخصوصة لأغانيها.. كان بمثابة الأستاذ والمعلّم والأب الروحى لأم كلثوم.. والمعروف أن رامى كان يذوب عشقا فى أم كلثوم، ولكنه كان شاعرا رومانسيا يجد فى أم كلثوم ملهمته بقصائد وأغان خلدتها أم كلثوم بصوتها، وظل رامى على حبه لأم كلثوم حتى بعد أن تعثر مشروع زواجهما، وتزوج هو سيدة أخرى كانت تعلم أن قلبه معلق بأم كلثوم، واعترفت بذلك فى أحاديث صحفية بعد رحيل رامى وأم كلثوم.
وقد تعاملت أم كلثوم مع رامى بذكاء وبراعة، واستطاعت أن تستخرج منه أجمل وأرق كلمات الغزل والغرام وأكثرها امتلاء بالحنين والعاطفة الملتاعة ومعانى الهجر والحرمان والسهد والنوح والصدّ والدموع .. بحيث لاتخلو أغنية كتبها رامى من التعبير عن عاطفة صادقة ومشاعر جيّاشة تمتلك نفس كاتبها، وتعبّر عن موقف معيّن فى الحياة الشخصيّة للشاعر.. ولعل ذلك كان خيرا له ولفن أم كلثوم العظيم.. فمن المرّجح أن جذوة الإبداع والشاعرية ستنطفئ وتخمد لو قُدِّر لهذه العلاقة أن تتوّج بالزواج والاقتران، ولن يظفر الفن عندها بتلك الدرر الباقية أبد الدهر.. ياظالمنى.. جدّدت حبك ليه.. غلبت أصالح فى روحى.. حيّرت قلبى معاك.. وغيرها مما لا يحصى كثرة وتنوّعا.
ولكن لماذا غضب أحمد رامى على أم كلثوم بعد كل ذلك لدرجة أن يهجوها وهو الشاعر الملىء بالإنسانية والشعور الفيّاض؟!
تروى الدكتورة نعمات أحمد فؤاد فى كتابها: «أم كلثوم عصر من الفن» خلفيّات هذه الواقعة ببعض التفصيلات.
فى يونيو 1932 م أقام معهد الموسيقى الشرقى حفل تكريم للآنسة أم كلثوم متخطّيا الفنانة منيرة المهدية التى دافعت عنها «روزاليوسف» واعتبرت هذا غبنا لها بحكم الأقدمية.. والجدير بالذكر أن «روزاليوسف» من حزب منيرة المهدية وطالما كانت ضد أم كلثوم فى تلك الحقبة..
وفى ذلك الحفل التكريمى ألقى أحمد رامى قصيدة فى مدح أم كلثوم جاء فى بعض أبياتها:
طربُ النفس فى سماع الأغانى.. وقعتها مثالثٌ ومثانى
ونجيّ الأرواح صوتٌ شجيٌ.. يتغنى بأعذب الألحان
وجمال الروض فى طيرها الشادى.. على ناضر من الأفنان
وكان رامى قد قال نفس الأبيات فى محمد عبدالوهاب قبل عامين.. فاستغلت «روزاليوسف» الفرصة ونشرت القصيدتين فى مكان واحد لتوكيد التكرار والتطابق وذلك تحت عنوان عريض: «الشاعر رامى يهين أم كلثوم!» مع بعض الكاريكاتيرات الساخرة.
وهكذا نجحت «روزاليوسف» فى تعكير صفو العلاقة بين الشاعر والمطربة التى لم تكد تلقاه حتى جابهته قائلة: «أنا متأسفة إنى عرفتك!».. أخطأ رامى فى تصرّفه ربما ولكن كلمة أم كلثوم قد جرحته وآلمت شعوره وكبرياءه وأدمت فؤاده.. ومن حينها قاطعها وقاطع الاستماع إلى أغانيها.. وظل يتعذب ويعانى ثمانية أشهر، وأخفق من حاولوا التوفيق بين الطرفين.
ثم تشاء الأقدار أن تعود المياه إلى مجاريها وتكون مبادرة الصلح من رامى الذى استجاب لإلحاح الوسطاء، وقام بزيارة أم كلثوم فى المستشفى بعد أن أجرت جراحة الزائدة الدوديّة.. وعادت الأمور كما كانت عليه.
القصيدة التى نظمها أحمد رامى لم تكن هجاءً بالمعنى الكلاسيكى القديم بقدر ماكانت اعتدادا بالنفس ومحاولة لعلاج جرح الكرامة والكبرياء..•
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف